الربيع يعني فلسطين

بعض المراقبين الغربيين المهتمين بشؤون المنطقة يجعلونا نتفاءل إزاء آفاق القضية الفلسطينية في سياقات الثورات العربية. في بداية الحراك قبل نحو عام، كتب باتريك سيل بجدّية عن إمكانية انبعاث القومية العربية، ومعها توابعها من الوحدة ثم التحرر. وقبل أيام، كتب فرانكلين لامب عن احتمالات انقلاب معادلة القوة الإقليمية بناء على تغيُّر نظام الحكم في مصر. والانطباع السائد هو أن خوف الأنظمة من الشعوب التي خلعت الخوف، سيغير المواقف الانهزامية الرسمية المعروفة أمام مشروع الاستعمار الصهيوني في فلسطين. ولا ينطلق هؤلاء المراقبون وغيرهم من المتحمسين للفلسطينيين من عاطفية عائلية، وإنما من موقف التضامن مع قضية يرونها عادلة، ومن منطلقات موضوعية.اضافة اعلان
وفي المنطقة العربية، من موريتانيا إلى العراق، لا تخطئ العين إجماع المزاج الشعبي على تعريف فلسطين ومعناها. وقد حدثني صديق زار تونس مؤخراً، بأنّ سائقي سيارات الأجرة هناك لم يقبلوا أخذ أجرة منه كلما علموا أنه فلسطيني. وكنتُ التقيت بأشقاء من كل دول المغرب العربي في تجمُّع، واندهشت من شدة عنايتهم المخلصة بفلسطين –على بُعد المسافة- ربما حتى أكثر من بعض أهلها. وقد أوجز فرانكلين لامب أصل هذه المشاعر، ولو أنه أحال إلى أفراد من الإخوان المسلمين ونقل عنهم، فقال إن "الخيط المشترك الذي يصل بين جميع الانتفاضات الإقليمية القائمة، هو ما يمكن وصفه بأنه السعي الأساسي إلى الكرامة والتخلص من الذل، إما بالتحرر من الأنظمة الاستبدادية المفروضة من الغرب، أو من وكيل الغرب العدواني وغير الشرعي، إسرائيل".
والعلاقة بين هذين المتغيرين في الوعي العربي، كما نعرفها ليست إما/ أو، بقدر ما هي علاقة عطف وتماهٍ. فالأنظمة الاستبدادية التابعة للغرب، والتي تذل شعوبها وتمتهن كرامتها، هي نفسها التي تشطب من الأجندات السياسية ما يتناقض مع إرادة الغرب. ومن الواضح الحتمي أنّ الغرب لَم يتوافر على أيّ نية لإنصاف الفلسطينيين، حتى بتطبيق القرارات الدولية التي صادق عليها في مؤسساته نفسها، أو بتجسيد المواقف الكلامية التي يعلنها زعماؤه كلما عقدوا مؤتمراً صحفياً مع زائر عربي. وخلال عقود من عمل الزعماء العرب على تعميق مشاعر الهزيمة الجمعية في الوعي العربي بعد النكبة والنكسة، استخدم هؤلاء حجة وجود العدو في فلسطين لبناء الجيوش وأجهزة الأمن وتكديس السلاح على حساب خبز الناس، بينما يرزقون في الحقيقة من عرق الناس جماعة المجمع الصناعي العسكري الغربي، ويتقاضى النافذون المليارات من سمسرة الصفقات، ثم يشغلون الجيوش حرساً خاصاً يستعملونه فقط لقتل شعوبهم نفسها، كما رأينا وما نزال في هذه الآونة. وفي كثير من الأماكن العربية، يعني مجرد ذكر المواطن تحرير فلسطين أنه "وطني"، أي شيوعي ويساري ومُلحد وضد النظام. وكثيراً ما سُجن الناس وعُذّبوا باعتبارهم انقلابيين وخونة وعملاء سريين لأنّهم يتحدثون في السياسة، بمعنى أنهم يقترحون الكرامة للإنسان والأمة، ويعتقدون بضرورة استعادة فلسطين كجزء من ذلك.
علاقة وجود الكيان وعمله في المنطقة بعبودية الشعوب العربية لا تحتاج إلى شرح. فغير الفلسطينيين، دفع مواطنون في بلدان عربية عديدة ضرائب هائلة بلا أقل من الدم والأرواح. وفي أماكن أبعد، كان تخاذل القادة في الانتصار للحق الفلسطيني، والضعف الواضح أمام السادة الغربيين في هذا الموضوع، عنواناً لمصادرة الإرادة الوطنية والانفصال بين الرأي الشعبي والسلوك السياسي الرسمي. وقد تلخص الموقف الرسمي جمعياً في معظم قرارات القمم العربية التي انعقدت خصيصاً لبحث الكوارث المتكررة على الفلسطينيين، وخذلت دائماً تطلعات الشعوب. ولا أعتقد أن من الصعب إقامة الصلة بين أحوال الناس المعيشية غير العادلة في الوطن العربي كله، وإسكاتهم وقمع أصواتهم وتعطيل فعلهم السياسي، وبين احتلال فلسطين.
الآن، لَم يغب الموضوع الفلسطيني عن الاهتمامات والشعارات الوطنية في التظاهرات العربية. ولم تغب المطالبات بقطع العلاقات مع الكيان عن مطالب الناس الساعين إلى استعادة الكرامة، فقط باستخدام طاقاتها وتسويد إرادتها لوضع العرب في مكانهم اللائق من صناعة القرار الأممي. ولذلك، فكّر الفلسطينيون، محقّين، بأنّ الربيع العربي إذا أزهر، فإنّ حلّ قضيتهم سيكون مُلازماً حتمياً باعتباره مكافئاً للكرامة القومية والشخصية، وسيعني شهادة تخرج العرب ونجاحهم النهائي في معركة الحرية.

[email protected]