السبسي، مؤسّس الجمهورية التونسية الثانية: إرث مختلَط

شاران غريوال* - (معهد بروكينغز) 25/7/2019

ترك السبسي خلفه إرثاً مختلطاً من خلال توجيه مسيرة بلاده في الانتقال نحو الديمقراطية وعرقلة هذه المسيرة في الوقت نفسه. فقد جهد لإعادة إشراك النظام القديم في العملية السياسية، حتّى لو شكّل ذلك خطراً على الديمقراطية. وتجسّدت روح الدمج هذه في قراره الأخير كرئيس: رفض حظر ترشيح عدة مرشّحين شعبويين مثيرين للجدل من انتخابات العام 2019.

  • * *
    فارق الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الحياة في 25 تموز (يوليو) عن عمر ناهز 92 عاما. وخلال فترة رئاسته، وضع الرئيس السبسي، أول رئيس مُنتخب ديمقراطياً في تونس، الأسس للجمهورية الثانية في البلاد وسط منطقة تهزها الاضطرابات في أعقاب ثورات الربيع العربي.
    لكن السبسي ترك خلفه إرثاً متضارباً. كان شخصية استقطابية نالت الثناء من أنصارها خلال أعوام الخدمة التي قدّمها لتونس، بما في ذلك إيصال البلد إلى الديمقراطية. لكنه كان بالنسبة لمعارضيه شخصاً من بقايا النظام المخلوع، والذي قوّض العملية الديمقراطية.
    كان السبسي رجل دولة يتمتع بعقود من الخبرة، فقد عمِل وزيراً للداخلية (من العام 1965 إلى العام 1969) ووزيراً للدفاع (من العام 1969 إلى العام 1970)، ووزيراً للخارجية (من العام 1981 إلى العام 1986) إبّان عهد الرئيس حبيب بورقيبة. كما عمل أيضاً رئيساً لمجلس النواب (من العام 1990 إلى العام 1991) في عهد الرئيس زين العابدين بن علي.
    بعد خلع الرئيس بن علي في العام 2011، أُعيد السبسي من التقاعد واختير كرئيس حكومة توافقي للوصول بالبلاد إلى أول انتخابات ديمقراطية لها في العام 2011. وبعد أن فاز حزب النهضة الإسلامي المعتدل بهذه الانتخابات، جمع السبسي مجموعة من القوى السياسية لمعارضة النهضة، ودعا في العام 2013 إلى حلّ المجلس الذي كان قد عمل هو نفسه على انتخابه.
    في نهاية المطاف، اختار السبسي وضع البلد فوق الحزب وتفاوض مع رئيس حزب النهضة، راشد الغنوشي، في سلسلة من اللقاءات التي بدأت في شهر آب (أغسطس) 2013. وأفضت تلك النقاشات إلى إقامة حوار وطني، ثم التوصل في نهاية المطاف إلى صياغة دستور جديد تمّت الموافقة عليه بالإجماع. وقد أدّى السبسي بذلك دوراً محورياً في إنقاذ الديمقراطية في تونس خلال أزمة العام 2013 تلك. لكنّ مُنتقديه يشيرون إلى أنّها كانت أزمة أسهم هو في نشوبها أصلاً.
    بعد ذلك فاز السبسي بالانتخابات الرئاسية للعام 2014، وأصبح أول رئيس يتم انتخابه ديمقراطياً في تونس. وفي خطوة فاجأت حتّى حزبه نفسه، قرّر تأليف حكومة وحدة وطنية مع خصمه السابق، حزب النهضة، وهي خطوة يقول بعضهم إنّها أنقذت تونس من حرب أهلية وأكسبتها ثناء دولياً كنموذج للتوافق والتسامح.
    غير أنّ عهد الرئيس السبسي كان مضطرباً. فقد تعرّضت تونس لثلاثة هجمات إرهابية كبيرة في مناطق مدنية في العام 2015. ويستحقّ السبسي التقدير الكبير لإعادة إحلال الأمن في البلد، لكنّ ذلك جاء على حساب إصلاح القطاع الأمني. وفي غضون ذلك، واصل الاقتصاد تدهوره، على الرغم من جهود السبسي لإعادة النظر في قانون الاستثمار واعتماد الإصلاحات التي نصح بها صندوق النقد الدولي.
    كان السبسي قد أمل أن يتمحور إرثه حول مواطن التقدم الذي تم إحرازه في مجال حقوق المرأة. فقد اقترح منح النساء حقوقاً تساوي حقوق الرجال في الميراث، وهي سابقة في العالم العربي وإصلاحٌ كان ليحسّن قانون الأحوال الشخصية التقدمي الذي كان قد بدأه مرشده الحبيب بورقيبة. غير أنّ السبسي عجز عن حشد ما يكفي من الدعم لمشروع المساوة في الميراث حتى ضمن حزبه.
    عوضاً عن ذلك، فإن أكثر ما يمكن تذكّره من رئاسة السبسي ربما يكون محاولاته إجراء المصالحات مع بقايا نظامَي بورقيبة وبن علي. وفي العام 2017، أدخل السبسي قانون مصالحة منح العفو لمسؤولين فاسدين من النظامَين السابقين، مقللاً بذلك من شأن عمل هيئة الحقيقة والكرامة. ورفض أيضاً طلب الهيئة إصدار اعتذار رسمي عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظامان السابقان، والتي وثّقتها الهيئة وبلغ عددها 62 ألف انتهاك، بما في ذلك بعض الانتهاكات التي كان مشاركاً فيها في الستّينيات.
    يوصم إرثه كرئيس أيضاً بمحسوبيّته تجاه ابنه حافظ؛ حيث سعى إلى تعيينه مكانه رئيساً لحزبه "نداء تونس"، وتسبب ذلك في تصدع كبير في الحزب. وأدى خروج بعض النواب منه إلى هبوطه من المرتبة الأولى إلى الثالثة في البرلمان، وقوّض هدف السبسي المتمثل في تشكيل ثقل سياسي موازن لحزب النهضة.
    باختصار، ترك السبسي خلفه إرثاً مختلطاً، من خلال توجيه مسيرة بلاده في الانتقال نحو الديمقراطية وعرقلة هذه المسيرة في الوقت نفسه. فقد جهد لإعادة إشراك النظام القديم في العملية السياسية، حتّى لو شكّل ذلك خطراً على الديمقراطية. وتجسّدت روح الدمج هذه في قراره الأخير كرئيس: رفض حظر ترشيح عدة مرشّحين شعبويين مثيرين للجدل من انتخابات العام 2019. وسيبيّن الزمن ما إذا كان سيتمّ تطبيق هذه الخطوة في اتجاه الدمج، وما إذا كانت ستحافظ على ديمقراطية تونس اليافعة أو أنها ستقضي عليها. لكنّ الأكيد أنّ تونس لن تكون على حالها من دون السبسي.
اضافة اعلان

*زميل زائر في مركز سياسات الشرق الأوسط في المعهد. قسم السياسة الخارجية.