السجن هل هو مشكلة أم حل لمشكلة أم رمز لهيبة السلطة؟

     هل درس باحث عربي موضوع السجون؟ أو كتب عنه أحد كقضية مجتمعية؟ قرأنا الكثير مما كتبه الحزبيون المعارضون عن السجن كمسألة سياسية أو بطولية، ولكن لماذا لم يكتب أحد عن مجتمع السجون، ويقدم وصفاً وتحليلاً لما يجري ويدور، ويناقش جدوى عقوبة السجون، ويطلعنا هل تصلح السجون الناس أو تعاقبهم بالفعل أم أنها أداة سلطوية فقط؟ لا علاقة لها بالثواب والعقاب؟

اضافة اعلان

      ربما تكون منى فياض أول أو من أوائل من تناول السجن كموضوع للبحث العلمي والدراسة المنهجية (السجن مجتمع بري: دار النهار، بيروت) وكانت المفارقة الأخرى أن الذي درس الموضوع امرأة وليس رجلاً برغم أن "السجن للرجال" كما في الثقافة العربية.

تشير مراجع الكتاب العربية أن أحداً لم يتناول السجن كموضوع للدراسة العلمية قبل منى فياض سوى ندوة علمية عقدها المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب في الرياض عام 1984 أو قبل ذلك وعنوانها "السجون ومزاياها وعيوبها من وجهة النظر الإصلاحية"، وثمة مخطوطة كتاب لم ينشر بعد "مجتمع السجون" أطلعني عليها مؤلفها "عكرمة غرايبة"

هل كان السجن فكرة ضرورية اخترعها إداري أو قائد مصلح؟

       كانت العقوبة الجسدية هي السائدة لدى العرب، ويرى روزنثال "مفهوم الحرية في الإسلام" أن السبب في ذلك يعود إلى البيئة البدوية حيث يعد السجن عقوبة على من ينفذها أكثر منها عقوبة بحق السجين. وكانت سجون الحجاج "الحاكم المشهور بالظلم" شبه خالية، ويرى الباحثون الغربيون أن السجن عقوبة مطورة عن العقوبات الجسدية وأكثر عدالة وملاءمة للإنسان، وإن كان بعض السجناء الذي سألتهم منى فياض فضل العقاب الجسدي على السجن.

       أصبح التعذيب منذ منتصف القرن التاسع عشر يتناقض مع العدالة، أو علامة على عنف العدالة، وصار يكفي حرمان الشخص من حريته المعتبرة حديثاً حقاً وملكية خاصة، واعتبر السجن منذ تلك الفترة مؤسسة إصلاحية تهدف إلى شفاء الشخص وإعادة تأهليه، وهكذا فإنه يكتب لافتات على السجون "مركز إصلاح وتأهيل" وهو الاسم الرسمي لها لدى المؤسسات الحكومية، ولكن السجن لم يكن في يوم كذلك في أرقى البلدان وفي غيرها بالطبع، ويميل مفكرون إلى أن العقوبة لا تصلح المخطئ، وأن قيمة السجن وأهميته لحماية المجتمع من تهديد بعض الناس دون أن تكون مصلحة السجناء هي الهدف المعتبر.

         الدراسة العلمية والاستطلاعات التي أجرتها منى فياض جاءت متطابقة مع أفكار سجين مثقف كان يتكئ على جدار السجن ويفكر لساعات طويلة في عملية تمرين ذهني ونفسي محاولاً إنقاذ نفسه مما يراه دوامة اختزال وإنتاج للمجرمين والمنحرفين الذين لو لم يسجنوا لكانوا أحسن حالاً.

         ثمة مجتمع متكامل تعيش فيه قبيلتان هما الشرطة والنزلاء ويحدث بينهما كل ما يحدث بين القبائل من صراع وتعاون وثأر ."ماذا يحدث لشاب أمي لا يملك ثراء داخلياً يطور دفاعاته النفسية أمام ما يواجهه من تدمير لنفسه ويستنزف بقايا التحصين التي اكتسبها أو ولدت معه؟ وعندما يتجمع هؤلاء الشباب المحرومون في ظروف من الحرمان والزحام الشديد غير المعقول تتكون عصابات وقيادات وفئات ضعيفة تقدم خدمة للأقوياء للحصول على المال والحماية."

         "وتنزع الخصوصية الشخصية، فيحلق شعره، ويعطى لباساً أزرق موحدا، وهو مجرد رقم يعرف به أكثر من اسمه، ويفقد ثراء الزمن ومفاجآته فكل شيء رتيب ومحدد تماماً بقوانين وإجراءات ومسارات لا يمكن الخروج عنها، كالطعام، والزيارة، والنوم، والتحقيق، والفسحة، والمكان ثابت لا يتحرك فيه شيء، وصمم لاعتبارات أمنية فقط، وتتماثل فيه الغرف وقطع الأثاث، والرائحة الوحيدة المتاحة هي رائحة الجهد البشري في أجواء ساكنة مليئة بالدخان والرطوبة. كل شيء مسطح تحت مراقبة الإدارة والنزلاء، فليس ثمة سر أو خصوصية، فيتحول التفكير والشعور والهواجس إلى سلوك علني أيضاً، فقد قلب عالم الإنسان من داخلي إلى خارجي، ماذا يحدث للذاكرة، والمشاعر، والتقييم، والألم..؟وتختزل ملكية الإنسان للأشياء في حدها الأدنى، امتلاك الأشياء المادية أو المعنوية، وكل شيء يمكن أن يصادر، ويمكن أن يتعرض للتفتيش والشتم والإهانة في أية لحظة.

        هذا الشعور الدائم بالتهديد الذي يرافق السجين يجعله هشاً نزقاً عرضة للانهيار النفسي والعصبي..وتدير السجن مجموعات من السجناء أنفسهم، وقد تكون هذه الإدارة الذاتية أكثر خطورة وتهديداً من الشرطة، وقد يصل تهديدها وابتزازها إلى رجال الأمن، وتحل جميع المشكلات بالعنف.

      وقد يصلح هذا المشهد لفهم المجتمع نفسه عندما يحكم بالعنف والقهر والتجسس، ألا يتحول أيضاً إلى مجتمع هش متآكل؟ ماذا يحدث لرجال الشرطة الذين يعايشون السجناء طوال الوقت؟ ويقتصر عملهم على الحراسة والمراقبة، أي أنهم يعيشون رتابة السجن ومحدوديته وفراغه.

       ينجو الشرطي غالباً من الاستدراج لكنه غالباً ما يكتسب عادات وصفات عدة يتشربها لا شعورياً فهو يفقد التعاطف الإنساني لشعوره المتواصل بأنه يتعامل مع مجرمين فينسحب ذلك على الناس الآخرين، ويتعامل بعنف حتى مع الناس الآخرين المحيطين به، ولا يعود يثق بهم.

       ماذا عن الجلاد الذي ينفذ عقوبة الإعدام؟ هل من فرق بينه وبين القاتل؟ ماذا يحدث لمشاعره وعلاقته بالآخرين ومن حوله، يفترض أنه لا يعرف الذين يقتلهم ولا يحمل تجاههم مشاعر من العداوة أو الثأر، هل يحدث لهذا السجان مثلما يحدث للقاتل الذي يكرر القتل ويدمنه.

       ثلاثة من النزلاء الأحداث "دون الثامنة عشر" حاولوا الانتحار، ومات أحدهم، وبقي اثنان في حالة سيئة جداً، يبرر أحدهما محاولة الانتحار كي ينتقل إلى المستشفى ويزوره أهله.

      أحد رجال الأمن اتهم بتهريب المخدرات إلى النزلاء، وقد أثبتت المحكمة أنه بريء ولكن بعد وفاته في ظروف بالغة القسوة فقد أصيب بجلطة ربما بسبب شعوره بالقسوة والظلم وبخاصة أنه أمضى حوالي خمسة عشر عاماً في الخدمة وينتظر الإحالة على التقاعد بعد شهور قليلة وهو مريض ابتداءً بالسكري. طلب الطبيب تحويله إلى المستشفى على نحو عاجل بسبب خطورة وضعه الصحي، ونقل بسيارة مصفحة تتحول في الصيف إلى فرن ملتهب، عدا أنها مليئة بالمساجين المقيدين من أيديهم إلى الخلف، ولم يكن لهذا المسكين مكان يجلس عليه في السيارة بسبب الزحام فمدد على أرضية السيارة، وفي السجن لم يكن له مكان أيضاً فأعيد إلى السجن، وظل ملقى على أرض السجن والناس تمر من فوقه وهي غادية رائحة دون أن يحاول أحد التعامل مع هذا الرجل الذي يحتضر.. وعندما نقل إلى العيادة التي لم تكن أكثر من غرفة تقدم مسكنات للألم توفي، وأظهرت المحكمة فيما بعد براءته!!.

      السجن هو أحد الأشكال الأساسية لردود الأفعال الاجتماعية، وهو يسبب العدوى بين الأشقياء في داخله، ويقدم مناسبة لتشكيل جنح أكثر مهنية، ويثير مشكلة العودة مجدداً إليه، وهذا يؤدي بدوره إلى إيجاد أسباب جديدة للجريمة، بالمقابل يؤدي التعلق المتصاعد على المستوى الاجتماعي إلى مضاعفة القوانين الجزائية، وهذه بدورها تزيد من سياق خرقها، وهكذا..

        إن الدراسات تجمع على أن السجن يخرج من الجانحين أكثر مما يستقبل، وأنه يضر المجتمع أكثر مما يفيد.. وربما يراجع الناس تجربتهم هذه التي اخترعوها كما راجعوا العقوبات الجسدية، وقد تتحدث عنه كتب التاريخ بعد مائة سنة كشيء فظيع ارتكبته الإنسانية بحق نفسها كما نتحدث الآن عن العقوبات والتعذيب التي كانت تمارس بأسلوب رسمي مقنن على أنها عقوبة وعلاج للمذنبين.