السر في فشل الحوار

كنت كتبت أكثر من مرة عن الرأي الخاص، والرأي الخبير، والرأي العام والفروق بينها، ولكن أكثر الناس لا يتذكرون، ومعظم المسؤولين لا يقرأون. وأعيد الآن الكتابة مرة أخرى بسبب الإشارات والتوترات الناجمة عن مشروع قانون الضريبة والفشل الحكومي الشعبي في الاتفاق عليه.اضافة اعلان
الرأي الخاص هو رأي شخصي، أي أنه خاص يصاحبه فقط، فإن يفضل واحد أكلة المنسف على أكلة المسخن، أو العكس، أو المقلوبة بالباذنجان على المقلوبة بالزهرة، أو العكس أو باللبن أو بالسلطة أو العكس، رأي شخصي، ولا دخل أو لا علاقة لأحد به. إنه تفضيل شخصي لا يعتمد على معلومة أو حقيقة (Fact) يمكن وصفها بالصح أو بالخطأ، لأنه لا يوجد برهان أو مقياس خارجي متفق عليه لمعرفة الرأي الصحيح من الخطأ.
نعم، قد يعثر الواحد منا على عدد من الناس يشاركونه رأيه الخاص أو يخالفونه فيه، لكن ذلك لا يجعله رأياً عاماً حتى وإن اتفق الجميع معه فيه. ولذلك أكون مذنباً عندما أُخطِّئ من يخالفني فيه، لأن هذا الرأي مبني على انطباعات شخصية أو ذاتية، أو حسية، ولا يجوز ان يتحول إلى مصدر للخلاف، وإن كان بعض الناس يفعلون.
لكن الأمر يختلف تماماً عندما يكون الموضوع المطروح فنياً أو تقنياً أو علمياً... فعندئذ لا يخضع للرأي الخاص، ولا للرأي العام أيضاً كما سيأتي، أتفق أو لم يتفق معهما.
خذ – مثلاً – حكاية تخفيض قيمة الدينار الأردني (العام 1989)، تجد أنه وإن كان معظم الناس، وربما جميعهم، لم يؤيدوا هذا التخفيض في حينه لما سيجره عليهم من خسائر، إلا أن الرأي الخبير قرر أنه لازم مالياً واقتصادياً، وأن التخفيض بدوره سيعود على الناس بالفائدة في المدى القصير أو الطويل.
والحكومات الأردنية تستدين لأن بقاء الدولة لم يكن ليستمر دون ذلك. هكذا كان رأي الخبراء. ولم يكن يدور بخلد الحكومات طرح قرارها بالإستدانة في كل مرة للاستفتاء، على الرغم من معارضة الناس للَّديْن.
أما الرأي العام فتعبير عن جملة أو محصلة آراء الناس في موضوع غير محسوم، لا يدخل في خانة الرأي الخاص أو الرأي الخبير. إنه في كثير من الأحيان سياسي أو مصيري، كموضوع الفيدرالية، أو الحكومة الالكترونية... ويمكن معرفته بالإستطلاعات أو من نتائج الانتخابات. لكن الأمر قد يختلط على الناس بتأثير الإعلام فلا يميزون بين الرأي الخاص، والرأي الخبير، والرأي العام.
هل يصح – مثلاً - إخضاع تعليم الفلسفة في المدرسة والجامعة، أو أسئلة الامتحان العام الموضوعية أو المقالية... للرأي الخاص أو للرأي العام؟ مثل هذه الموضوعات تخضع لرأي المختص أو الخبير في الحكومة والبرلمان والمجتمع، مع أنه قد لا يوافق على مشروع القانون أو يعدله، أو يقدم له بديلاً، أو قد يخطئ في الموافقة عليه، كما حدث في موضوع "البريكست" البريطاني الذي يطالب بعض الخبراء الآن بالعودة عنه باستفتاء جديد، لأنه لم يكن لازما إخضاعه للرأي العام أصلاً، كما صرح بذلك – نادماً – ديفيد كمرون رئيس الوزراء الذي قرر إجراء الإستفتاء.
لا يعني هذا منع النقاش أو الكلام في أي أمر، فحرية التعبير واجب ويجب ان تظل مصونة، لكن يحسن بكل واحد أن يعرف حده وأن يقف عنده، ومن ذلك أنا لا أجرؤ على رفض مشروع القانون أو تأييده هكذا على الريحة أو مع التيار، مع أنني أحمل درجة الدبلوم بعد البكالوريوس في التخطيط الاقتصادي التربوي. ولكنني لا اعتبر نفسي خبيراً اقتصادياً، لأنني لم أُدخل نفسي في صميم العملية الاقتصادية، وليست لدي معلومات كافية عن الوضع المالي والاقتصادي في الأردن، المتوافرة عند المختصين أو الخبراء الاقتصاديين التي تبرر القانون، لاتخذ موقفاً.
كلنا يذكر ما حدث في اليونان حيث تم فرض ضوابط مالية واقتصادية خانقة على الشعب لمساعدة الدولة على الخروج من أزمتها المالية والاقتصادية الخطيرة، وإلا أفلست وأنهارت.
ومع ان الشعب اليوناني رفض الضوابط بكل السبل والوسائل السلمية المتاحة إلا أن الضوابط أقرت ومُرّرت، لأن الخبراء رأوا أنها لازمة، فلم تخضع الحكومة الشعبوية للضغط الشعبي الشديد عليها لرفضها. وها هي تتحرر من القيود أو الضوابط بعد عشر سنوات من التقشف والعذاب.
لقد تبارى كثيرون، مختصون وغير مختصين، في التصدي لمشروع القانون، مع أن بعضهم وربما كثير منهم لم يقرأه أو لم يطلع عليه. لقد فعلوا ذلك مقاومة للحكومة أو نكاية بها، على الرغم من ثنائهم على رئيسها، لأن مقاومة الحكومات أو مناكفتها والتطاول عليها تسر الناظرين، والنفوس مليانة من زمان وتريد فرصة لتفرغ حمولتها هذه، فجاءت في وجه هذا الرئيس الصادق والأمين وحكومته، التي أخطأت بطرح القانون للحوار الحكومي الشعبي، وكأنها لا تعرف النتيجة سلفاً.