السطو الناعم

لسنوات وعقود، كان الأردنيون يصفون بلدهم بأنه الأكثر أمنا واستقرارا بين بلدان الجوار. في تلك الأيام، كانت الخدمة العامة شرفا والمسؤولية أمانة والناس يكسبون بجدهم وعرقهم. كبار الموظفين في مؤسسات الدولة يسكنون في بيوت متجاورة في أحياء تعرف باسم مؤسساتهم، فيعيشون في مستوى متقارب وقلما يظهر من بينهم من يثري ثراء فاحشا بين ليلة وضحاها. الموظفون الحكوميون والعسكريون كانت لهم أحياء في عمان والزرقاء، وكان لبعض هذه المؤسسات نواد يلتقي فيها العاملون وأسرهم، فيعرف الناس أوضاع بعضهم بعضا، فتتعزز لديهم روح الانتماء المؤسسي ويدعمون القواعد الأخلاقية والمهنية لأعمالهم ومهنهم.اضافة اعلان
قصص الثراء المفاجئ والقصور التي يملكها العاملون في مواقع عامة لم تكن معروفة، والاشتباك بين القطاعين العام والخاص لم يكن موجودا بالصورة التي نراها اليوم. لقد أمضى ضيف الله الحمود وعبد الداودية وحكمت الساكت وسالم مساعدة وذوقان الهنداوي والعشرات من رجال الدولة، حياتهم في إسكانات التربية والتعليم والداخلية وغيرها، فكانوا مثالا يبعث على الاحترام ويشكل رادعا لكل من قد يفكر في الاعتداء على المال العام من صغار الموظفين أو من غيرهم.
لعقود طويلة، كانت جرائم القتل والإيذاء والانتحار في الحدود الدنيا والسرقات محدودة يقوم بها أشخاص معروفون لأقسام الشرطة، ومن غير المتوقع أو المألوف أن تسمع عن جرائم السطو أو الانتحار أو أي من الجرائم التي وصلت الى معدلات مقلقة هذه الأيام.
حالات السطو التي وقعت على البنوك خلال الأشهر الأولى من هذا العام، أثارت لدى الشارع الكثير من الأسئلة والشكوك. البعض يعتقد أنها مفتعلة لدفع البنوك لطلب خدمة الأمن والحماية، والبعض يستغرب إقبال الجناة على ارتكاب أفعال السطو على بنوك مراقبة إلكترونيا ولا مناص من إلقاء القبض عليهم.
التفسيرات التي قدمها الخبراء والباحثون، لا تقدم نظرية مقنعة للدوافع والعوامل التي أدت الى تزايد حالات السطو، فالبيانات المتوفرة لا تدعم بالكامل ربط الظاهرة بالحاجة المادية؛ حيث كان من بين الفاعلين من يملك عددا من المركبات الخاصة وأرصدة في البنوك. الخصائص الديموغرافية للفاعلين وتنوع خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية وعشوائية انتقاء الجناة للأهداف، أمور تربك أي محاولة للتحليل والفهم.
الأعمار والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية للجناة ومواقع الفروع التي وقع عليها الاعتداء والأوقات التي ارتكبت فيها الجرائم والأدوات المستخدمة وقيمة الأموال المسروقة، إضافة الى الأسلوب الجرمي وتصرف الجناة بعد ارتكاب الفعل، كانت مادة دسمة للتحليلات والنقاش والفرضيات التي قدمها البعض حول دوافع هذه الجرائم والأسباب الكامنة وراء توزيعها وتكرارها وظهورها بالشكل والصيغة التي ظهرت بها هذه الجرائم.
إلقاء القبض على الفاعلين أو تسليمهم أنفسهم بعد ارتكاب الفعل بساعات واستجابات المدونين التي لا تخلو من التعاطف مع الفاعلين وإيجاد المبررات لأفعالهم، قضايا تستوقف المراقبين والمحللين وتدفعهم للتساؤل عن الأسباب والمبررات للموقف الشعبي الأقرب الى التعاطف مع العديد من الفاعلين الذين أعادوا كامل الأموال أو الأجزاء المتبقية بعد تسديد التزاماتهم المستحقة.
استمرار وقوع حالات السطو على البنوك والمحلات التجارية من قبل أشخاص عاديين لا يوجد لهم سجلات جرمية وإلقاء القبض عليهم بعد الفعل بساعات واستعادة الأموال المسروقة، أمر يبعث على الاستغراب والدهشة، ويدفع للتفكير بالأسباب التي ولدت هذه الظاهرة الغريبة والمستعصية على الفهم.