السياب عاش المعاناة والمرض ومات غريبا طريدا

السياب عاش المعاناة والمرض ومات غريبا طريدا
السياب عاش المعاناة والمرض ومات غريبا طريدا

نقاد وكتّاب وصفوه بأنه أحد أهم رواد الشعر العربي المعاصر

محمد جميل خضر

عمان - في جيكور, غزيرة الشعراء, وكثيرة النخل, ولد في العام 1926، الشاعر العراقي الراحل، بدر شاكر السياب امير التجديد في الشعر العربي المعاصر.

اضافة اعلان

وجيكور من اعمال البصرة جنوب العراق. وفي "بيت الاقنان" كما وصفه في قصيدة له, ترعرع السياب, وهو المكان الذي اصدر منه فيما بعد جريدة "جيكور" الخطية غير المطبوعة, تتناقلها ايدي صبيان القرية, ثم تعود في ختام المطاف لتجد مستقرها على الحائط في غرفة "الادارة". وفي تلك المساحة المكانية والزمانية عاش احد اهم رواد قصيدة التفعيلة, وصاحب الثورة العروضية التي لا يزال اثرها يفعل فعله في الشعر العربي المعاصر, وهناك خزن قصص الناس وحكايات جدّه وعجائز القرية الآخرين, ومنها حكاية الكائن الاسطوري عبد الماء الذي اختطف الفتاة القروية الجميلة زينب وهي تملأ جرتها من النهر, ومضربها الى اعماق البحر وتزوجها وانجبت له عدداً من الاطفال وفي يوم رجته ان تزور اهلها, فأذن لها بذلك. بعد ان احتفظ بأبنائه ليضمن عودتها, ولكنها لم تعد, فأخذ يخرج من الماء ويناديها ويستثير عاطفتها نحو اولادها, ولكنها اصرت على البقاء, الى ان اطلق اهلها النار على الوحش فقتلوه, اما الاطفال فتختلف روايات العجائز حول مصيرهم.

ولا تتوقف ذكريات السياب الذي يصادف يوم غد مرور 42 عاماً على وفاته في 24 كانون الاول (ديسمبر) من العام 1964 وكان وقتها يعالج في مستشفى كويتي ويقيم هناك, عند حكايات الجدات, بل تشمل لعبه على شاطئ بويب, مع اترابه, وعلاقته ببيت اقطاعي في بقيع المجاورة لجيكور, حيث كان يلفت انتباهه ويجذب نظره شناشيل ذلك البيت المعلقة في شرفة مغلقة ومزينة بالخشب المزخرف والزجاج الملون فيه.

وبين بقيع وجيكور، عاش السياب صاحب "انشودة المطر" طفولته، وفي العام 1938 انهى دراسته الابتدائية في مدرسة المحمودية, وفيها نال علامات جيدة جداً في العربي والانجليزي والهندسة والانشاء.

وبعيداً عن السيرة الذاتية حول طفولة السياب وعمله الوظيفي ومرضه, فإنه على صعيد منجزه الشعري, يعد حسب معظم النقاد العرب, احد اهم رواد القصيدة الحديثة في مسيرة الشعر العربي, ويصفه الشاعر حكمت النوايسة بأنه "الرائد الحقيقي للقصيدة العربية الحديثة"، ويرى ان تلك الريادة لا ترتبط فقط بما احتوته قصائد واشعار "غريب الخليج" من تجديد في الايقاع "وإنما في الرؤية والتشكيل"، ويخلص النوايسة الى القول "ويبقى ومهما قيل عن مشاركيه في الريادة, الا انه يعد علامة خاصة في تاريخ القصيدة العربية".

ولا يبتعد رأي القاص والناقد د. احمد النعيمي استاذ مهارات اتصال اللغة العربية في جامعة البلقاء التطبيقية عما خلص اليه النوايسة حول السياب, ويؤكد النعيمي في هذا السياق، ان السياب هو من اسس القصيدة العربية الحديثة "واتخذت فيما بعد شكلها الحالي". ويستنتج النعيمي ان قصيدة النثر بما هي عليه حالياً تأثرت في شكلها الخارجي على الأقل بقصيدة التفعيلة التي كان السياب رائدها. ويصف النعيمي اعادة توزيع صاحب قصيدة "هل كان حباً؟" لوحدة التفعيلة العروضية بالفعل العبقري الجريء بعيد النظر, ويقول "وهو بالتأكيد واجه انتقاداً حاداً في ذلك الوقت من المتعصبين للقصيدة العمودية, لكن حتى هؤلاء الذين انتقدوه, كتب كثير منهم فيما بعد قصيدة التفعيلة", ويربط النعيمي تلك المقدمات بصيرورة الزمن الذي, برأيه, يسير دائماً الى الامام, وهو الامر, كما يستنتج النعيمي, الذي قرأه السياب مبكراً.

ومواصلاً ما تقدم من آراء, يقول الناقد واستاذ الاعلام في جامعة اليرموك د. نبيل حداد "السياب بالنسبة للشعر العربي الحديث, ليس شاعراً عادياً, بل هو عصر شعري, بدأ به ولا يزال العطاء يتواصل", ويرى حداد ان شعر السياب لا يحمل صورة حياته فحسب, وانما صورة عذاب المثقف ومعاناته وألمه ويزيد "وحين تقرأ شعر السياب في وصفه لمعاناته, فإنك تقرأ وصف معاناة النموذج الانساني الذي لا يفوته سمواً سوى نموذج الانبياء".

ويؤكد حداد في سياق متواصل, ان شعر السياب يعد اضافة "لا اقول نوعية فقط, بل حاسمة في مسيرة الشعر العربي المعاصر". ويشير في سياق استعراضه لنتائج ما حققه صاحب قصيدة "مدينة السندباد", الى ان جماليات شعر السياب لم تتوقف عند مستوى نقدي واحد "بل ان شعره لا يزال يعطي ويعطي في كل يوم تقرأه وفي اي مستوى او منهج نقدي تتعامل معه".

يشكل العام 1957 مرحلة مهمة من مسيرة الشاعر الذي حمل جيكوره معه في حله وترحاله, عندما صارت له علاقة ما مع مجلة "شعر" التي سرعان ما اصبح واحداً من دعاة التجديد فيها امثال ادونيس وانسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ, وهي المرحلة التي شكلت قطيعة بينه وبين مجلة "الآداب" اللبنانية التي تبنت نتاجه في مرحلة ما قبل "شعر".

وبدعوة من المجلة, يسافر السياب في العام نفسه (1957) الى بيروت لاحياء امسية شعرية هناك, تعرّف خلالها على ادونيس وانسي الحاج وشوقي ابي شقرا وفؤاد رفقه ويوسف الخال, ويعود الى بغداد اكثر ثقة بشاعريته, واشد احساساً بالغبن في بلده, حيث يجابه وعائلته مصاعب الحياة براتب ضئيل.

وعندما رزق في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1957 بابنه غيلان, واكتحلت عيناه بالفرح, فقد عبر السياب عن فرحه بمولوده الاول بقصيدته "مرحى غيلان" التي يقول فيها:

"ينساب صوتك في الظلام كالمطر الغضير

ينساب من خلل النعاس وانت ترقد في السرير"

الى ان يقول

"وهبته عشتار الازاهر والثمار

كأن روحي

في تربة ظلماء حنطة

وصداك ماء اعلنت بعثي

يا سماء

هذا خلودي في الحياة

سكن معناه الدماء".

وقبل ان ينهي صاحب قصيدة "غريب على الخليج" عقده الرابع, تبدأ قصته مع المرض, بعد مشوار مرتبك ومضن حياتياً (فصْلٌ من العمل وإعادة تعيين واعتقال وملاحقة) ومضيء ابداعياً (نشْر مجموعات شعرية في لبنان واجتراح ريادة شعرية عربية فذة), ولا يكاد العام 1962 ينتهي الا ويبدأ صراع صاحب "الوصية" مع المرض العضال, وسط عَوَزٍ مادي حمله على ترجمة كتابين اميركيين من اصدارات مؤسسة فرانكلين, ما جرّ عليه وقتها العديد من الاتهامات والشكوك. وعندما لم يعد قادراً على المشي ادخل في 18 نيسان (ابريل) من العام 1962 مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت, وبعد محاولات فاشلة لتشخيص مرضه غادر المستشفى, موجهاً نداءه الى زوجته اقبال:

"اقبال يا زوجتي الحبيبهْ

لا تعذليني، ما المنايا بيدي

ولست، لو نجوت, بالمخلد

كوني لغيلان رضى وطيبهْ

كوني له اباً واماً وارحمي نحيبهْ"

عاش احد اهم المجددين في الشعر العربي, معاناة المرض والعوز في بغداد وبيروت ولندن وباريس والكويت، وعاينت تلك العواصم وغيرها, لحظات ضعفه الانساني, واشواقه, ومكابداته في ظل ظروف سياسية غير مستقرة في بلده, وفي ظل تأرجح حياتي مضن له على صعيد سؤال العيش, وانجازات شعرية على صعيد سؤال الابداع.

وفي قصيدته "اسير القراصنة" يحاول السياب تدوين بعض ما تعرض له من خذلان، إنْ على صعيد الجسد (حسرته مشلولا), او على صعيد احلام الابداع الرومانسية (متخيلاً نفسه عازف غيتار جوال).

واجه السياب في حياته القصيرة (مات عن 38 عاما), ما لا يطاق من الانتقادات, وعانى بأكثر من شكل ومستوى من عدم تقدير ريادته وعبقريته الشعرية, ومات غريباً في عاصمة عربية شقيقة, بعيداً, عن جيكور, ونخل العراق, وملاعب الصبا:

"الشمس اجمل في بلادي من سواها

حتى الظلام هناك اجمل, فهو يحتضن العراق

صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق

كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع الى العيون

الريح تصرخ بي: عراق

والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق".