الشغف بمهنة الخياطة والتصميم "شريط زاخر بالذكريات" يرويه بندلي حبش

أحمد الشوابكة

مادبا- منذ ما يزيد على أربعين عاما ونيف، ما يزال مصمم الأزياء النسائية الخياط الستيني بندلي حبش صامدا في محله الذي أسسه في مدينة مادبا، رغم المتغيرات التي شهدتها المدينة وناسها من تطور وحداثة تواكب العصر، فهو يحتفظ بأدق التفاصيل لامتهان هذه المهنة بشغف لا يوصف، على حد تعبيره.اضافة اعلان
بندلي حبش التحق بأحد المعاهد في العاصمة اللبنانية بيروت على يد أمهر مصممي الأزياء في الشرق الأوسط، تحديداً الفترة 1970-1975، ونال درجة الدبلوم، وبسبب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، اضطر للعودة إلى مادبا لينشئ مشغلاً للحياكة، وتفصيل الألبسة النسائية في شارع الملك عبد الله الأول، وما يزال قابعاً فيه، واقفاً أمام طاولة طويلة وعريضة، حاملاً بيده مقصاً ومتر القياس على كتفيه، منهمكاً كعادته في تفصيل قطعة نسائية لإحدى زبوناته، وتركيزه منصب بالتخطيط وعلامات قص القطعة القماشية، حسب تصميم المتفق عليه دون كلل أو ملل.
لم تتسم مسيرة أبو سابا مع تصميم الأزياء وخياطة الملابس النسائية بالسرعة، بل كانت هادئة وممتلئة بالعناية والدقة في عملية تفصيل الملابس، دون استخدام التقنيات الحديثة وبقي مستخدماً أدواته الاعتيادية التي رافقته طوال السنين الفائتة، وفق ما قاله "الكل يتقدم بسرعة خيالية وهنا تكمن المشكلة.. من المحزن كيف أصبحنا مثقفين جداً ونتسم بالقدرة على التعلم بسرعة".
وعرج أبو سابا إلى البداية بسرد ممتع عن أجزاء في تلك الحقبة الزمنية التي مضت وبقية تخلد في الذاكرة، يخرجها كلما أتاحت الفرصة، بحسب ما قال في حديثه لـ"الغد": "لدي مخزون من الذاكرة في هذه المدينة التي عشت فيها وترعرعت في أحضانها قبيل سفري للبنان وعودتي تصلح قصصاً وحكايات تروى من حين لآخر لكثرة الأحداث والمراحل التي مررت بها مع أناس هذه المدينة".
ويردف أبو سابا عن عودته إلى مدينة مادبا، بالقول: "لاحت بالأفق فكرة تفصيل الفساتين لمجموعة من صبايا مدينة مادبا بالمجان، لتكون بادرة أولى في عملية الترويج لمشغلي الذي أسسته منذ مجيئي إلى المدينة، رغم الاختلاف الواضح بين بيروت ومادبا من حيث مواكبة الحياة بمنظور مختلف".
ويتابع "ولكي تنضج الفكرة إلى أرض الواقع، كان يتوجب علي أن أقنع أولياء أمور البنات والخوف من عدم الاستجابة يراودني؛ لكنني فوجئت بالاستجابة والقبول، لأقيم أول عرض للأزياء النسائية في منتصف السبعينيات من القرن الفائت، وسرعان ما حظيت تصميماتي بلفت الآخرين، لتتوالى بعد ذلك الطلبات من قبل نساء مادبا على المشغل لتلبية حاجاتهن من ملابس تواكب صيحات تلك الحقبة الزمنية من تاريخ هذا البلد الجميل بأصالته.
ويقول أبو سابا: في تلك الفترة كانت مدينة مادبا من أكثر المدن تحضراً، وكانت منبراً ثقافياً وفنياً، لوجود مركزين للشباب والشابات يقعان في وسط شارع العشاق، ما أعطى حافزا بإنشاء مشغل خياطة الألبسة النسائية".
ويضيف "من هنا انطلقت البداية لمشروع العمر الذي كان يراودني في كل لحظة تلو الأخرى؛ فبالصبر والجهد والمثابرة يصل المرء ما يصبو إليه، فلم يمض وقتاً، والمشغل يمتلئ بالزبونات لتفصيل الموديلات الحديثة التي كن يتبعنها في ذلك الوقت عبر تصميماتي، إضافة إلى المسلسلات التي تعرض على قناة التلفزيون الأردني أو من خلال المجلات الدارجة في ذلك الوقت أو من خلال السفر للخارج".
واسترجع شيئا مهما من مخزون الذكريات، متحدثاً بشغف وفي الوقت نفسه متحسراً على تلك الفترة التي اتسمت بالمواءمة والاحترام والتعامل الذي يربط أبناء المدينة التي شكلت حالة قل نظيرها في العالم، ومن دون مجاملة أو رياء، وهذا واقع أبنائها الذين تربوا على الأخلاق الحميدة وكرم الضيافة وحسن الجوار.
ويستعرض الجوانب التي تخص عالم الأناقة في تلك الفترة، وبخاصة بما يتعلق بتجهيز العروس، حيث كانت تجهز أكثر من لبسة تتخطى العشرة أحيانا، خلافاً لذلك، فالأم والأخوات والقريبات وأهل العريس من النساء يقمن بطلب تفصيل ملابس العرس، ما استدعى المكوث في المشغل نهارا وليلا، ويمتد أكثر من شهر في أغلب الأوقات.
ويتابع "على خلاف الوقت الحالي الذي أصبح فيه تجهيز العروس جاهزاً وفاقداً جودته من ناحية نوعية القماش المصنوعة التي لا تتصف بالإتقان وبأقل التكاليف عكس التفصيل الذي يحتكم فيه المصمم أو الخياط إلى الدقة والإتقان".
ويردف وهو مبتهج الأسارير "أن ما يثلج صدره، بأن ثمة فساتين لم تفقد نضارتها وتتوارثها أجيال، وهذا ما أخبرته به إحدى الزبونات رغم السنين التي مضت عليها، لأنها ما تزال تحتفظ بنضارتها دون أن يطالها أي خراب أو عفن".
ويصف "هذا الحدث المفرح يجعلني متمسكاً بهذه المهنة، رغم تعب السنين، وهو ثمرة جهد وتفان وإخلاص للمهنة، إذا أحببتها تعطيك ما تصبو إليه، وهذا بمثابة نصيحة لكل من يمتلك بيده مهنة أن يخلص لها، ففي يوم ما سيشعر بما ستدر عليه من خير".
ويعيد أبو سابا التأكيد أن الأزياء ترمز الى انتساب اجتماعي وحضاري، وأصبحت وسيلة للتعبير عن الذات، وتغيير الموضة أسلوب يقدمه مصممو الأزياء والموضة في العالم، وهناك أيضا موضة اللون، لذا الأزياء تشهد تغييرات كبيرة في كل المجتمعات العربية، وإذا ما عدنا إلى فترة الستينيات والسبعينيات نجد أن البحث عن الموضة كان عبر وسائل الإعلام من صحف ومجلات تهتم بالموضة وتلائم الذوق العام بشكل جميل وراق يتناسب مع العادات والتقاليد.
إلا أنه أبدى غرابته للوقت الحالي الذي يهيمن عليه استيراد الملابس من الصين وتركيا ودول أخرى، بعد أن خلت الأسواق من أي قطعة ملابس محلية، فبحسبه، فإن تصميم قطع الملابس المحلية الآن سيكون مكلفا باحتساب كلفة الخياطة والخامة، في الوقت الذي يجد فيه قطعة ملابس جاهزة صينية أو تركية أو من دول أوروبية وآسيوية وبأسعار رخيصة جداً، ما جعل هذه الدول تهتم بإنشاء معامل ومصانع خاصة بصناعة ملابس عربية وإسلامية وبيعها في الأردن، ما يشجع المواطن على أن يكون مستهلكاً جيداً.
ويتابع "إضافة الى ذلك، فإن هذه الدول وجدت فرصة كبيرة لتسويق الموضة، مثل: البنطال الممزق أو الجينز اللاصق أو ملابس بصور شخصيات أوروبية أو رسم جماجم وعبارات غير مفهومة وغيرها من صرعات، وقد عدها الشباب حرية، فبعض الشباب يبحث عن هويته من خلال الأزياء، فيما يجدها الجيل السابق ملابس غريبة وغير لائقة، في حين أن البعض وجد ما يليق به في المناسبات".
إلا أنه وعبر السنوات العابرة لا يعد نفسه مصمما للأزياء بقدر ما هو فنان، فهو يصمم الزي بطريقة فنية، ويحرص على اختيار أجود أنواع الأقمشة، ويضيف أنه عندما يصمم فستان زفاف لإحداهن فهو لا يصمم الزي بل يصنع الحلم، فكل تصميم يقوم به خلفه قصة وشعور ورسالة.
ويشرح استراتيجيته في العمل، قائلا "أحرص على مقابلة الشخصيات للتعرف إلى أذواقها ونوع المناسبة لأجدد الخط الذي أعتمده في عملي. أحاول أن ألتزم بالمناسبة والمجوهرات التي ترغب السيدة بالتزين بها لأصمم الفستان الملائم".
ويضيف "أسعدني التعامل مع نساء مثقفات لديهن الوعي الكامل بأن المصمم هو الشخص المختص بالتصميم الذي يستطيع ابتكار القطعة الملائمة للشخصية".
واعتاد أبو سابا في الصباح الباكر من كل يوم أن يجلس أمام ماكينة الخياطة محاطاً بالعديد من الملابس التي يتركها أصحابها عنده لتصليحها، وهو يستمع الى أغنيات الطرب، ليؤكد أن حرفة الخياطة ما تزال صامدة وتقاوم خطر الانقراض نتيجة بحث الناس عن الأسهل والأسرع، ما أدى، بحسبه، إلى اقتصار أعمال الخياطين على إصلاح الملابس أو تغيير مقاساتها وفق الطلب.
ويعمل أبو سابا في مهنة إصلاح الملابس مع زبائن عديدين من مختلف المستويات، مؤكداً أنه يقوم بتصليح ملابس تخص كبار المسؤولين، من خلال المصابغ التي تقوم بدور الوسيط في ذلك، مشيراً إلى أن ميسوري الحال أيضاً يقومون بإصلاح ملابسهم، وذلك عائد إلى أسعارها المرتفعة وجودة أقمشتها، إضافة إلى أن بعض هذه الملابس تشكل لدى صاحبها قيمة كونها جاءته هدية غالية أو تتميز بلون وحجم مناسبين له أو أنه لا يجد بديلاً مشابهاً لها في الأسواق.
ويبين أن هذا كله في حال كان الزبون جديدا يريد التفصيل لأول مرة، أو يحضر أحياناً قطعة قديمة له لنأخذ المقاسات منها، أما إذا كان زبونا قديما اعتاد تفصيل البدلة أو البنطال لدينا فتكون مقاساته مسجلة على الدفتر، ونعود إليها مباشرة ويبقى له اختيار الأمور الأخرى من قصة أو موديل ونوعية القماش واللون.
وأشار إلى وجود مواسم تنشط فيها أعمال الخياطة، كما في مناسبات الزفاف والأعياد، لافتاً إلى وجود تفاوت في أسعار الملابس حسب عدد الأمتار والموديلات وساعات العمل التي يستغرقها.