أفكار ومواقف

الصراخ البرلماني

يتآخى الصّراخ في البرلمان الأردنيّ مع الصّراخ المجتمعي الذي يصمّ آذاننا وهو يتردّد إثر إعلان نتائج “التوجيهي”، وفي كلام النّخب، وفي وسائل الإعلام، وفي خطب الجمعة، ودروس بعد العشاء في المساجد، وفي لغة التربية والتعليم، وفي مخاطبة التلامذة، وفي ردود أفعال الموظفين في الدوائر الحكومية، وفي المعارضة، ولدى أصحاب “الولاء والانتماء”، وفي استعراضات الإيمان! فالجميع يصرخ احتجاجاً على أيّ شيء، ودفاعاً عن أيّ شيء! وهو صراخ هستيريّ يساعد على تشخيص حالة مجتمعنا وما بلغه من آداب الحوار واحترام الآخر والإيمان بحقّه بالوجود والتّعبير، أو حقّه بالخطأ والصواب.
وإذا أنّا مجتمع ترحّلت أصوله من البادية المفتوحة على الجهات الأربع، فيكون رفع الصّوت سلوكاً طبيعيّاً لإيصاله إلى من بصعوبة سيسمع، إلا أنّ الأردنّ قبل عقد أو عقدين لم يكن بضجيج طحّانة صخور (في غرفة مغلقة) لا تستجيبُ للياقة أو أصول في الكلام والتّخاطب! أي أنّ البيئة الطبيعيّة نفسها التي أنجبتنا، لم تكن تتحكّم بحناجرنا على هذا النحو الهمجيّ الذي تتحكّم به اليوم، بل ويزيد عليها سوء الظنّ بالديمقراطيّة ومعاني الحريّة الفرديّة وحريّة التّعبير إلخ إلخ وتفسيرُها على أنّها جميعاً تعني “أفعلُ ما أشاء وعلى النّحو الذي أشاء”!
وإذا أنّ تهذيب الصّوت ارتفاعاً وخشونة ليس سوى سلوك حضريّ متأتّ من حياة المدينة، فإنّ درجته في التّخاطب في الثّقافة المدنيّة تكاد أن تكون تخاطراً، من كثرة ما حفّها التّوجيه والتّربيةُ ومُعَدِّلات السّلوك وقوانين التّعايش الاجتماعيّ، أي سطوة “الإتيكيت”. فتقاليد المدينة تجعل من الصُّراخ استثناءً لا سلوكاً يوميّاً مَرْضِيّاً عنه تحت سمع وبصر جميع مؤسّسات التّربية والتّوجيه الأخلاقيّ!
وإذا ما كان الأمر كذلك، فإنّنا، وقد شهدنا تقدّماً مدنيّاً في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته، آن لنا أن ننحدر تباعاً، كمجتمع بدويّ تمَدْيَنَ، لنقبسَ من همجيّة الفهم المغوليّ للحريّاتِ، وخشونة الفهم الإسلامويّ لمعنى المعارضة، والتي تبلغُ -كما نرى اليوم- حدّ العنف والإرهاب.
وعلى ذلك، فإنّ الصّراخ البرلمانيّ -مع أنّه صورة مصغّرة لصراخ المجتمع وخشونته- ليس سوى أداة من أدوات الإرهاب لترويع الآخر؛ أزميلاً مخالِفاً أم حكومة متربّصاً بها!
وليس في ظني من حلّ سوى إعادة الرّوح إلى المنظومة التّربويّة والتّعليميّة التي شبعت موتاً. يشهد عليه هذا السّقوط المُدوّي لتقاليد الشّكل والمعنى والقيم جميعها!
دعونا لا نفقد الأمل!!!

[email protected]

[jetpack-related-posts][/jetpack-related-posts]
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock