الصراع على مستقبل "داعش"

يتقلص حد الانهيار "داعش" التنظيم في معقليه الرئيسين؛ العراق وسورية. لكن هذا الإنجاز يعيد طرح السؤال عن مصير "داعش" الفكرة، الإرهابية المتوحشة، والتي تكاد تصبح عالمية الإلهام، ومن ثم الانتشار، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ تتبناها تنظيمات في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وأسوأ من ذلك تبنيها من قبل أفراد يشكلون "ذئاباً منفردة"، قادرين على قتل العشرات، بقرار ومجهود ذاتيين.اضافة اعلان
وبعد خبرة سنوات مع "داعش"، وسنوات أطول قبل ظهوره تنظيمياً، فإن الإجابة عن السؤال السابق؛ أي إمكانية ظهور "داعش" جديد أو أكثر مستقبلاً (أو للدقة السماح بذلك)، من عدمه، تبدو معلقة على نتيجة التفاعل وحتى الصراع بين تيارات ثلاثة.
إذ كشفت الخبرة السابقة عن ثلاثة اتجاهات في التعامل مع "داعش"، التنظيم والفكرة. الأول، هو ذاك الذي سعى أفراده إلى استغلال تنظيم "داعش" وتوظيف جرائمه للتجييش فقط على كل ما هو إسلامي -غير مرتبط بإيران تحديداً- حفاظاً على الأوضاع القائمة؛ سواء لأنهم مستفيدون من هكذا أوضاع، أو لأنهم يعون أن تغييرها لن يصب في مصلحتهم أبداً.
وبدهي أن وصفة هذا التيار "الإقصائية الاستئصالية" في جوهرها، وإن تمت تغطيتها أو تبريرها بدعاوى من قبيل العلمانية والدولة المدنية وسواهما، ليست إلا وصفة نوري المالكي ذاتها، المسؤولة عن نشوء "داعش" أصلاً، عندما قرر المالكي (مع إيران أو بطلب منها) أن سُنّة العراق جميعاً إرهابيون ينتمون إلى "القاعدة"، فكان أن أنتج بالمحصلة ما هو أسوأ من هذه الأخيرة.
أما التيار الثاني، فهو ما يمكن تسميته تيار "الإصلاح الجزئي"؛ إذ يركز على جزئيات محددة، باعتبار أن التعامل معها وحدها كاف لاحتواء التطرف والإرهاب. وعدا عن مشكلة "الاجتزاء"، فقد أساء لهذا التيار أن تسلل إليه منتمون للتيار الأول، بما جعل حتى مطلباً محقاً تماماً ومتأخراً جداً، هو إصلاح التعليم؛ مناهج وأدوات وبيئات، وعلى كل مستوى؛ مدرسي وعال، محل ريبة في أهدافه وغاياته النهائية. ومثل هذه الإساءة تحققت أيضاً من أصحاب معايير مزدوجة؛ يرون في الإصلاح السياسي، مثلاً، في بلادهم أحد السبل الحتمية لاحتواء التطرف، فيما هم أنفسهم من دعموا ويدعمون في الوقت ذاته أنظمة مستبدة فاسدة في بلدان أخرى، منهم نوري المالكي قبل إجباره على التنحي عن المشهد. وهذا ما يثير بدوره ريبة مشروعة بشأن المشروع الذي يحمله هؤلاء ضد مخالفيهم، إلا "داعشية" غير دينية، في حال تمكنهم من السلطة، بأي درجة وعلى أي مستوى!
بالتوازي مع التيارين السابقين، هناك تيار "الإصلاح الشامل"، إدراكاً لحقيقة أن ظاهرة التطرف والإرهاب التي يمثل "داعش" أسوأ تجلياتها (حتى الآن!)، محصلة اختلالات اقتصادية وسياسية واجتماعية، كما ثقافية. وبدهي أن هذا التيار الأخير لا تعوزه الحجة، نظرياً وعملياً، على مستوى العالم ككل، وليس على صعيد العالم العربي فحسب. لكن في الحالة العربية تحديداً، حيث يلعب مفهوم الأمة "العربية والإسلامية" دوراً جوهرياً، أحببنا ذلك أم لا، فإنه لا بد وأن يُضاف إلى أسس هذا التيار مطلب الإصلاح الإقليمي، ومبتدؤه الوقوف بالأشكال الممكنة كافة في وجه اللاعبين الإقليميين العابثين بالعالم العربي؛ لاسيما إسرائيل وإيران. فالفظاعات المسؤولة عنها هاتان الدولتان لعبتا دورا حاسما في تغذية التطرف عربياً، لاسيما في ظل الصمت عنهما. فكان أن ملأ "داعش" حاليا، وأشباهه سابقا وإن حملوا أيديولوجيات مختلفة، الفراغ الذي خلفته الدول العربية، بدعوى حماية إخوة العروبة والإسلام، في فلسطين والعراق وسورية.
بالنتيجة، فإن انتصار التيار الثالث أو تسيده المشهد هو الضمانة الوحيدة للقضاء على "داعش" فكرة كما تنظيماً للأبد، وبما يحمي الدول العربية، شعوباً وأنظمة.