الصين والهند: مصنع العالم ومركز المعرفة

ثمة فروق مهمة وأساسية بين نموذجي الصين والهند في النهضة والتقدم، قد تبدو الصين اليوم أكثر ثراء وقدرات وتفوقا من الهند، ولكن الهند مع الزمن تتحول إلى قوة عظمى أكثر رسوخا واستقرارا، وأكثر انسجاما مع مقتضى العصر، وأكثر استجابة لاقتصاد المعرفة وتحولاتها.

اضافة اعلان

الواقع أننا أمام حدث كبير ومذهل، يغير من تركيبة العالم وقيادته في المستقبل، ويغير ايضا في الموارد وتوزيعها واستهلاكها، بل هو إعصار هائل يغير بنية المنظومة العالمية وقواعد الصراع والمشاركة والمنافسة.

يقول مهندس النهضة في سنغافورة (وهذه قصة أخرى تحتاج إلى وقفة خاصة بها) لي كوان يو: أذهب إلى الصين كل عام، وأذهل في كل مرة من سرعة النمو والازدهار التي أراها.

ففي الصين اليوم 40 ألف كيلومتر من الطرق السريعة "الأوتوستراد" وكانت عام 1989 167 كيلومترا، ويمكن تعميم المثال على المصانع والمطارات والمباني الشاهقة والمساكن والسيارات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية.

والصين في ذلك تكاد تشغل العالم كله، الشركات والمصانع العالمية الكبرى والصغيرة، والمستهلكين أيضا، فقد اجتذبت الاقتصاد العالمي، وانتقلت إليها أعمال كثيرة ومصالح مختلفة، وقد أدى ذلك إلى إغلاق كثير من المصانع والأعمال والشركات في بلادها الأصلية.

ومن الظواهر المدهشة في الصين اليوم هي صناعات التجميع لصالح شركات عملاقة مشهورة، من مصانع السيارات في كوريا إلى صناعات الأجهزة الالكترونية في تايوان والولايات المتحدة واليابان، فيجري تصنيع المنتجات في خط إنتاج معقد وطويل بين بلدان المنشأ والصين، على سبيل المثال فإن شركة جي سي لصناعة الملابس تشتري الغزل اللازم من كوريا، ثم تشحن الخطوط إلى تايوان لصبغها ونسجها قماشا، وتوفر شركة يابانية الأزرار اللازمة من خلال مصنعها في الصين، ثم تشحن الأقمشة والأزرار إلى تايلاند لتنتج على هيئة قمصان وملابس مختلفة، وتخفض الشركة في ذلك كلفة الإنتاج بنسبة كبيرة.

وحركت بدورها الدول المجاورة ليكون لها دور في حركة الإنتاج العالمي، فتحولت البلدان النامية إلى البدايات الأولى في سلاسل الإمداد، فتوفر البلدان النامية اليوم حوالي 40% من الواردات الصناعية للبلدان الغنية.

ولكن الصين في سلوكها السياسي الشمولي والاقتصاد الانفتاحي تواجه أزمة كبرى اجتماعية وسياسية، منها الفساد المستشري والمتمكن، وفي تركيزها على الاقتصاد العالمي فقد أنعشت المدن وأنهكت الريف، لتتشكل فجوة هائلة وخطيرة بين الريف والمدن.

في المقابل، اتكأت الهند تاريخيا على نظام سياسي ديمقراطي وتعددي ومتسامح وعلى اقتصاد أقرب إلى اقتصاد الدولة والاشتراكية، وهي اليوم توظف مسارها السابق في تشكيل نظام سياسي واقتصادي واجتماعي أقرب إلى الطريق الثالث، وفي اهتمامها بالزراعة ستجعل الريف مندمجا في الحياة السياسية والاقتصادية، الديمقراطية الهندية بطيئة وتعوق الطموحات الاقتصادية، ولكنها تمنح الهند والعالم أنموذجا يصلح للاقتداء.