الطالب الشبح

ماسة الدلقموني

لماذا هذا العنوان! نعم، قد أكون قد أخطأت بوضع هذا العنوان قبل كتابة محاور المقال الأساسية، أو حتى معرفة تفاصيل ما أريد ان أقول، ولكن قلمي لا يأبه بذلك، فقد خط الأحرف بكل ثقة وبلا تردد، لذا سأسمح له بإكمال هذا المقال بعفوية مطلقة.اضافة اعلان
اختبرت شخصياً- وقد يكون هذا حال الكثير من حولي- شعور ما أُطلق عليه "الطالب الشبح" داخل المؤسسة المدرسية لسنوات عديدة، موجودة جسدياً ومغيبة فكرياً، موجودة على قوائم التحصيل الأكاديمي ومغيبة عاطفياً، موجودة على دفتر الحضور ومغيبة في الساحات وعلى مستوى الإدارات التي لم تر بيننا إلا المتفوقات والموهوبات. والموهبة في مجتمعي آنذاك لم تأخذ حقها الوافي بالتعريف، والطالب آنذاك لم يأخذ حقه الوافي بمساعدته على اكتشافها، فمن جاء بها من بيته كان محظوطاً ووضع في خانة الرعاية المميزة.
مسؤوليتنا اليوم هي تحويل كل طالب شبح إلى طالب موجود فكرياً وعاطفياً واجتماعياً (وربما سياسياً). كيف؟ السؤال الموجع، فيكف لنا أن نفعل ذلك ونحن نصب جهودنا لخلق مناهج بناءة تعلم الطلاب الأحرف اللازمة لتركيب الكلمات وتكوين الجمل ليتقنوا الكتابة على ورقةٍ ترسو بعلامة- تقيس مقدار الذاكرة لا غير- لتحدد مستقبلهم، كيف؟
حضرت مؤخراً ملتقى مهارات المعلمين 2018 تحت عنوان "نمو يتخطى الدرجات"، عنوان رائع. استطعت الارتباط بهدفه بلحظات، فالتقييم بالدرجات لم بناسبني يوماً، اختبرت فيه ظلماً فادحاً وحكماً مسبقاً يحدد القدرات الكامنة لدى الطلاب بخلق خط نهاية واضح لا بد لنا جميعاً أن نصل إليه بغض النظر عن أي اعتبارات للاختلافات الإنسانية والمواهب غير الأكادمية وبدون أي خارطة للطريق ووسائل لا تتعدى الورقة والقلم والدفتر واللوح، خط نهاية يحدد الهدف الأسمى لكل طالب ليقف كسقف مسلح أمام القدرة الإبداعية.
وما أن تخطيت العنوان حتى سرح خيالي ووجدت نفسي أقف في مدرسة حكومية مبهورة...أرى فيها إلى جانب المنهج الأكاديمي منهجاً وجواً مدرسياً موجَّها لإطلاق القدرات والمواهب وتعريف الطلاب بذواتهم بمرحلة مبكرة...أرى مدرسة تملؤها التفاعلات لا الأوامر...مدرسة يرى المعلم فيها نفسه طالباً للعلم بلا توقف...مدرسة بجو تعاوني يتبادل به الطلاب المعرفة على أوسع نطاق بدلا من الجو التنافسي القائم على احتكار المعلومة ... مدرسة صالحة ومؤهلة للوجود البشري من مرافق ووسائل تنمي العقل والفكر والروح والجسد بدلا من الحقد والغضب والسخط...مدرسة بإدارة واثقة ومؤهلة وعلى قناعة بأنها هناك فقط وفقط لتخدِم لا لتُخدَم... مدرسة يقصدها طلابنا طامحين لإثبات وجودهم لا حضورهم على دفاتر الغياب.. مدرسة لا تقاس بتحصيلها الأكاديمي فقط بل بتأصل جذور ثقافة تطوير الذات وتطوير الآخر فيها.
ومن الخيال إلى الواقع، انتقل من الجلسة الافتتاحية إلى ورشات العمل - ولا بد لي أن أشير هنا إني تفاجأت بالعدد الوافي والمواضيع المتنوعة والنوعية العالية المعروضة هذه السنة- بشعور إيجابي وشحنة من الطاقة الجميلة المليئة بالأمل، وعلى غير العادة يلازمني الشعور الإيجابي خلال أيام الملتقى الثلاثة كاملة، فلأول مرة منذ زمن أستشعر من خلال حديثي مع معلمات ومعلمين ومدراء من القطاع الحكومي من اشتفينا والكرك و العقبة وإربد وغيرها من المناطق بأن التغيير قادم برغم ثقل حمله وبطئه، فمن خلال تبادل الحديث معهم ورغم الإختلافات في الآراء حول منظورهم للتعليم وتطويره ودورهم وحاجاتهم إلا أني وجدت تشابها واضح مشترك بين الأحاديث يكمن بتقديرهم لما يحصل اليوم فالقرارات الموجهة للتغير مربوطة بأفعال على أرض الواقع لا على الورق. وهذا برأيي البسيط المتواضع - الذي يحتمل الخطأ أو الصواب- إن كان ليعكس شيئاً فهو بداية بناء الثقة في الوزارة وقراراتها إلى حد ما والتي بدونها يكون التغيير مستحيلاً.
نعم! قابلت من هم غير مؤهلين لهذه المهنة. ونعم! سمعت قصص ومشاكل لا حدود لها. ونعم! قد نحتاج إلى قياس هذه الثقة بطريقة علمية عن طريق مركز الأبحاث لربما. ونعم! مدارسنا اليوم بعيدة كل البعد عن عن المدرسة الحالمة التي تخيلتها في الجلسة الإفتتاحية. ونعم! قد أبدو للبعض متأملة حالمة، فأنا على قناعة تامة بقول باولو فريير " لا تغيير بدون أحلام، ولا أحلام بدون أمل، فالإيمان يُوجِد الأمل، والأمل يوجد الإحتمالات، والإحتمالات توجِد الخيارات، والخيارات توجد الأحلام". وإن كان لأطفال هذا البلد حق علينا فهو أن لا نحرمهم حقهم في الحلم. فلنحلم بقرارات وزارية تعطي الميسرين (المعلمين) الوسائل اللازمة والوقت الكافي لتأمين بيئة محفزة وحاضنة لنمو يتخطى الدرجات، ولنحلم بميسرين مبادرين يخرجون عن طريقهم ليبدعوا في تفادي هذا النظام العقيم ويساهموا في إعادة تصويبه لصالح كل طفل من أطفالنا، ولنحلم بنقطة الإلتقاء بين تلك القرارات  وهذه المبادرات.