العدوانية شرط للسلام!

الدول مثل الأفراد، منها الشرس المشاكس، ومنها الهادئ المسالِم. لكنّك إذا سكنت في حيٍّ فيه جيرانٌ أصحاب سوابِق، واعتمدت في بقائك على سلميتك، فيغلب أن يروا حائطك واطئاً وأن يتنمّروا عليك. ولذلك، سيترتب عليك أن تصنع لنفسك الهيبة بفعل أشياء. مثلاً: أن تمتلك سلاحاً قويّاً وأن تقنع الآخرين بأنك لن تتردد في استخدامه. ثانياً، أن ترفع صوتك وتفرد عضلاتك وتروي حكايات تثبتُ أنك "مشكلجي" قديم. وإذا استطعت أن تشتبك في شجار محسوب مع أحد أضعف منك وتغلبت عليه، فقد تنفع الخدعة ويتقي الآخرون شرك. لكنك ستغامر بلفت الانتباه إليك ومحاولة اختبارك. والويل لك إذا جرك أحدٌ إلى شجار وخطف سلاحك وتغلب عليك. لن ينقذك بعد ذلك شيء.اضافة اعلان
العالم – أو أجزاء مهمة منه، ومنها منطقتنا- يشبه "العشوائيات" التي يتواجد فيها مخاتير و"فتوات" لا يحبون أن يتحداهم أحد ويحرمهم إمكانية الاسترزاق من الأتاوات والتخويف. ولذلك، إذا لم تمتلك الدول المحبة للسلام في هذه الأحياء شيئاً من الشراسة والأدوات التي تردع بها عدوانية الآخرين، فإنها لن تنعم بالسلام. وقد تبدو بعض الدول "مسالمة سالمة"، لكنها يجب أن تكون بلا أسنان وأن تقول: حاضِر، حاضِر.
في روايته العبقرية، "المئوي الذي هبط من النافذة واختفى"، يقترح الروائي السويدي، يوناس يوناسون، أن أناساً في الولايات المتحدة اشتغلوا على تهريب التقنية النووية الأميركية إلى الاتحاد السوفياتي لتمكينه من قنبلته النووية أيضاً. والسبب؟ رأوا أن امتلاك أميركا وحدها القنبلة سوف يزيد احتمالات نشوب حرب فتاكة بين الدولتين لأن إحداهما تشعر بالتفوق وحتمية الفوز بسبب "القنبلة". ولذلك، سيعني امتلاك السوفيات قنبلتهم تخفيض احتمال الحرب إلى الحد الأدنى: "الردع المتبادل". ومع بشاعة الأسلحة النووية – والأسلحة ككل- وقدرتها على القتل، فإن امتلاكها يصبح شرطاً لتخفيف القتل وشراء السلام، بقوة الردع.
يستشهد المعلقون بثنائيات متعارضة ودالّة من إقليمنا وما وحوله: ليبيا والعراق؛ في مقابل كوريا الشمالية وإيران. الأولتان خسرتا برامجهما النووية، فأصبحتا فريستين سهلتين للقوة الأولى صاحبة "القنبلة"، والوحيدة التي استخدمتها فعلياً في الإبادة الجماعية: الولايات المتحدة. والأخريان تراوحان في المنطقة النووية وتبنيان ما تيسر من سبل القوة، وتدفعان –ولو بالصراخ والتلويح- حتى الأقوياء إلى التردد في الاشتباك معهما.
يكتب المدون الأميركي نيكي ريد: "القانون الدولي في هذا الصدد (منع الانتشار النووي)، ليس أكثر من مزحة سخيفة سقيمة. لقد تعرضت إيران على مدى عقود للمضايقات والتخويف من إسرائيل مسلحة نووياً بشكل غير قانوني، إلى جانب الدولة الوحيدة التي استخدمت أحد هذه الأشياء الملعونة، بينما تعترف وكالات استخبارات هذه الدول المارقة للغاية بأن البرنامج (النووي الإيراني) هو محض خيال مطلق. وفي الأثناء، تواصل الهند وباكستان سباقهما التسلحي (النووي) غير المشروع بشكل فاضح بينما تستحمان بدلاء من المساعدات الغربية".
يصف ريد الدولة التي لا تحاول تسليح نفسها جيداً بأنها "صبي الكشافة" الأخير. ويقصد الغربيون بهذا المصطلح، الشخص المفرط في مثالية التوجهات والسلوك إلى حد السذاجة. وعندنا يناظره "الدرويش" أو الذي "على البركة". ويبدو العرب "صبيان الكشافة الأخيرون" الذين كان يجب أن تجعلهم كثرة اللطمات يعرفون أكثر.
في الحقيقة، يضع واقع "العشوائيات" والفتوات في الإقليم والعالم المرء أمام معضلة أخلاقية. هل من الصواب الدعوة إلى التسلُّح وإيواء نزوع عدوانية، بينما تجب الدعوة إلى صفاء الطوية والطيبة والسلمية؟ ماذا عن الدول المسالمة التي تجد السلام: سويسرا، فنلندا، آيسلندا وأشباهها؟ هل يمكن أن يمتلك أحد سلاحاً ونفوذاً ويفلت من إغواء النظر إلى بيوت جيرانه –وأبعد؟
أسئلة محيِّرة توقع في الشبهات. إنها تتعلق باختيار أن يكون الناس –والدول- "صبيان كشافة" يُقادون إلى النبع ويعادون عطشى، أو أن يكونوا ماكرين مسلحين قادرين على الشجار، وأصحاب هيبة من النوع النافذ المخيف. والمفارقة في كل هذا أن "السلام" بمعناه المطلق تصور أسطوريّ ينتمي إلى اليوتوبيا المتمنّاة. وفي هذا ألم إجباري لكل روح إنسانية نقيةٍ محبّة للخير والسلام.