العراق وأميركا.. الطريق إلى الهزيمة

من وجهة النظر الرسمية الأميركية المعلنة، كما من وجهة نظر بعض الكتاب والباحثين الأميركيين، فإن مجرد الحديث عن انسحاب من العراق في الوقت الحالي، في ظل الانفلات الأمني الذي يعيشه هذا البلد، سيلحق أكبر الضرر بسمعة الولايات المتحدة الأميركية وهيبتها، إن لم يكن مثل هذا الانسحاب سيعدّ هزيمة تلحق بها. لكن هل تصمد مثل هذه الحجج في وجه المعارضة الشعبية المتصاعدة من قبل الأميركيين ذاتهم لوجود جيشهم في العراق، والدعوات المتزايدة من قبل أعضاء الكونغرس لوضع خطة للانسحاب ضمن فترة زمنية محددة، وقريبة نسبيا؟

اضافة اعلان

يمكن القول إن الانسحاب العسكري للجيش الأميركي قادم لا محالة، وضمن فترة زمنية قصيرة. ليبقى التساؤل الأهم: كيف وصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى الهزيمة في العراق، على صعيد الهيبة خصوصا، وليس على صعيد عدد قتلاها من الجنود في الواقع؟

صحيح أن الولايات المتحدة -وكما أثبتت وثائق سرية تم تسريبها من مقر رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، ونشرتها صحيفة "صنداي تايمز" في 12 حزيران الجاري- قررت غزو العراق دون أية خطة لما بعد "التحرير" المزعوم. ثم تلا ذلك من مجموعة من القرارات التي افتقدت إلى أي منطق يعضد المزاعم الأميركية بالسعي إلى إعادة بناء العراق، بل وشكلت هذه القرارات الفتيل لكل أعمال العنف التي يشهدها العراق، سواء أكانت مقاومة أو إرهابا أو جريمة منظمة، لا سيما من خلال القضاء على كل هيبة للدولة والقانون بعد حل الجيش العراقي، وجعل العراق أرضا مباحة للمجرمين واللصوص والقتلة.

لكن برغم ذلك، بدا أن الولايات المتحدة، وقد اكتشفت "حكمة" قراراتها وقرارات ممثلها المدني في العراق، بول بريمر، بعد فترة وجيزة، سارعت إلى سلوك الطريق المنطقية بعد الاحتلال، فعمدت إلى نقل السلطة إلى العراقيين، ولو شكليا، في 28 حزيران 2004، ليلي ذلك في 30 كانون الثاني 2005،  إجراء أول انتخابات تعددية في العراق منذ ما يقرب من نصف قرن.

هذه التطورات، كان يفترض أن تترافق مع تغيرات حقيقية على الأرض، لا سيما من ناحية أعمال العنف، طالما أن من اصبح يحكم العراق، ولو بوجود أجنبي أميركي أو متعدد الجنسيات، هم عراقيون ومنتخبون أيضا من غالبية أبناء الشعب العراقي، لكن ما حصل كان خلاف ذلك تماما! لماذا؟ 

علينا ابتداء الإقرار بحقيقة أن الأميركيين لم يكونوا السبب الرئيس في الصراع الإثني والطائفي الذي يجتاح العراق اليوم، بل هم كشفوا فقط عن هذا الاحتقان المتراكم منذ عقود أو أكثر من السنين. لكن مسؤوليتهم تتمثل في أنهم، وإذ قرروا غزو العراق، فقد كان عليهم إن إرادوا بناءه فعلا، أخذ العامل الإثني والطائفي فيه بعين الاعتبار، والواقع أنهم فعلوا ذلك، ولو متأخرا، من خلال دعم العملية الديمقراطية في ذلك البلد، وهي العملية التي تجسد الحل الأمثل للتنوع في العراق.

صحيح ان الديمقراطية بشكل عام تحتاج إلى وقت طويل، ولربما طويل جدا، حتى تؤتي ثمارها على صعيد خلق مفهوم المواطنة وتحقيق الاندماج الاجتماعي كشرطين لازمين للاستقرار، لا سيما في بلد كالعراق، لكن العملية الديمقراطية التي دعمتها وأشرفت عليها الولايات المتحدة في العراق ولدت في الواقع مشوهة إن لم تكن محتضرة، بسبب خطأين أميركيين قاتلين!

الخطأ الأول يتمثل في أن الولايات المتحدة عندما غزت العراق، لم تكتف برفع راية خلق عراق ديمقراطي نموذج لدول المنطقة الأخرى، التي تعادي أغلب أنظمتها الديمقراطية من حيث المبدأ، بل قامت الولايات المتحدة باستعداء هذه الأنظمة. وهكذا بات إفشال الديمقراطية في العراق، حتى لو افترضنا -عن غير حق- أن الولايات المتحدة تسعى إلى خلقها، بات إفشال هذه الديمقراطية هدفا للكثير من الأنظمة العربية أيا كانت نتائجها، سواء أحملت إلى الحكم فئات ذات توجهات قومية عربية أم غير ذلك، وسواء حملت طوائف دينية أو مذهبية منسجمة مع هذه الدولة أو تلك أو لم تكن! لكن هل كانت الولايات طامحة إلى خلق "ثورة فرنسية" جديدة في العراق، ستنتصر في حربها مهما خسرت من معارك، لتنشر مبادئها في العالم العربي ككل، كما فعلت الثورة الفرنسية في أوروبا التي توحدت ضد الثورة الفرنسية؟!

رغم أن هذا السؤال يبدو مثيرا للسخرية تماما، وليس سؤالا يحتاج إلى جواب، بالنظر إلى سعة أفق الإدارة الأميركية الحالية وتخبط سياساتها تجاه العراق، بدءا من ذرائع الحرب عليه، وحتى خطة بنائه، التي يبدو أنها مازالت غير موجودة حتى الآن، رغم ذلك، فإن الإجابة بالاستناد إلى أية أسس أخرى، تظل بالنفي بالنظر إلى الخطأ الثاني القاتل الذي ارتكبته الولايات المتحدة على صعيد العملية الديمقراطية في العراق، وذلك بهدف التقليل من أهمية مقاطعة العرب السنة للانتخابات الأخيرة في العراق. وهو الخطأ المتمثل في تبني المفهوم الحرفي، والمغلوط تماما لمضمون الديمقراطية الحقيقية، أي "حكم الأغلبية".

فـ"حكم الاغلبية" في الرؤية الأميركية للديمقراطية العراقية التي تتباها الولايات المتحدة بها كأهم منجزاتها في المنطقة العربية ككل، غدا على أرض الواقع "لعبة صفرية" بالمعنى الدقيق للتعبير؛ أي بكلمات أخرى، استحواذ الأغلبية (الشيعة والأكراد) على كل شيء، فيما تخسر الأقلية (العرب السنة) كل شيء في المقابل! ومن ثم، كانت نتائج الديمقراطية العراقية شبيهة بصب الزيت على نار السنة العرب العراقيين، وهي النار التي تعتبر الولايات المتحدة مسؤولة بشكل كبير، وإن لم تكن وحدها، عن إشعالها، من خلال التركيز على أن السنة أقلية تحكمت بالأغلبية العراقية لعقود طوال، وإلى درجة تصوير كل العرب السنة العراقيين جزءا من نظام صدام حسين، ومسؤولين جميعهم بالتضامن عن تصرفات ذلك النظام.

فمثل هذه الصورة قد تشكل مبررا أخلاقيا لا لإقصاء العرب السنة عن العملية السياسية في العراق وحسب، بل ولجعلهم أهدافا مباحة للانتقام عن الماضي، ولندخل بالتالي، ودون حاجة لوجود أي مقاتلين أجانب، في دوامة عنف لا تنتهي، تسمى حتما "حربا أهلية"، ضحيتها العراق والعراقيون كافة.

يصر الرئيس الأميركي على التحدث عن خطة بمسارين للانتصار في العراق والانتصار للعراق، لكن بعد أن ثبت فشل المسار الأول سلفا، وهو الحل الأمني، وبالنظر إلى الصورة المشوهة للمسار الثاني، وهو ديمقراطية الأغلبية، فمن الممكن القول إن الولايات المتحدة مازالت عاجزة عن وضع خطة لحماية نفسها من الهزيمة في العراق، وهي للأسف، وشئنا ذلك أم أبينا، هزيمة أشد قسوة لنا كعرب ومسلمين طالما أن بديل الاحتلال سيكون حربا أهلية، وقودها العراقيون، وغيرهم من عرب ومسلمين.

[email protected]