العرب بعد 100 عام من "ثورة أكتوبر"..!

تشهد هذه الأيام مناسبة مرور 100 عام على قيام ثورة أكتوبر الروسية في العام 1917. وقد شكلت هذه الثورة منعطفاً في تاريخ العالم، وغيرت وجهاته ليصبح ما هو عليه اليوم. وبطبيعة الحال، كان للثورة البلشفية أثر بارز علينا نحن العرب، سواء من ناحية التيارات الفكرية الجديدة التي أحدثتها في العقل العربي، أو من ناحية تأثيرها في الأوضاع الجيوسياسية العامة للمنطقة.اضافة اعلان
كان أبرز تأثيرات الثورة البلشفية على العرب هو تكوُّن الأحزاب الشيوعية العربية، والتيارات اليسارية الأوسع التي حلمت بتغيير يستلهم التجربة السوفياتية. وكانت العدالة الاجتماعية وتأمين حصة الفقراء في ثروة الأمة، وحقوق العمال في مواجهة جشع رأس المال، عناوين لا تخفى جاذبيتها بالنسبة لقطاع كبير من الناس. كما أن ولادة معسكر عالمي يقف في وجه الغرب الإمبريالي أنجب شعوراً بالحماية بالنسبة لشعوب المنطقة التي استهدفها الغرب الرأسمالي بالاستعمار للاستيلاء على ثرواتها.
بالنسبة للفكر العربي، أثارت الأسس الفكرية التي قامت عليها الثورة السوفياتية تأملات فلسفية جديدة كلية في التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانوية والوجودية، وفتحت للعقل العربي آفاقاً رحبة في تفسير العالم وحركته وآلياته. وأتاحت هذه التأملات قراءات من زوايا جديدة لتاريخ المنطقة وتفاعلاتها وتطلعاتها، بعد أن كان التفسير محتكراً لصالح سلطات راسخة ضيقة الرؤية وأحادية الوجهة.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، شكل وجود الاتحاد السوفياتي، كنقيض للغرب الإمبريالي، وجهة يلتجئ إليها العرب لطلب نصرة القضايا الوطنية، والحصول على الأسلحة ونوع من الحماية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نتذكر موقف الاتحاد السوفياتي في أزمة العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وتأييده لحركات التحرر العربية من الاستعمار، وتزويدها بالسلاح وبالدعم الإعلامي والسياسي وفي الهيئات الدولية. وكان أبرز تجلٍ لأهمية الاتحاد السوفياتي بالنسبة للعرب، هو تسني الاستفراد بهم بعد انهياره، كما ظهر بوضوح في اجتراء الولايات المتحدة على غزو المنطقة عسكرياً باحتلالها العراق، ووضع اليد مباشرة على مصادر النفط في المنطقة. كما تسبب انهيار الاتحاد السوفياتي بخيبة أمل للحركات التقدمية العربية، في مقابل الارتياح العميق للأنظمة السكونية، السياسية منها والأيديولوجية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما نجم عنه من صدمة اليسار العربي، عادت المنطقة العربية إلى هيمنة البدائل السلطوية القديمة، ووجدت الأيديولوجيات المتطرفة ومنظومات الحكم غير الديمقراطية مساحات جديدة لتحتلها على حساب المشاريع التقدمية المُحبطة والمتراجِعة. وقد أظهر "الربيع العربي" سهولة الاستقواء على ما يوصف بـ"اليسار" العربي الذي سُرقت منه جهوده في الانتفاضات، بسبب افتقاره إلى العمق الجماهيري وضيق المساحات التي تبقت له لترويج خطابه.
بطيبعة الحال، أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى إطفاء الجاذبية التي كانت تتمتع بها مبادئ ثورة أكتوبر 1917، وسحب البساط من تحت أقدام التيارات والأحزاب الاشتراكية والشيوعية التي لم يعد خطابها مقنعاً للجماهير. وتحول الكثيرون من الناشطين اليساريين إلى منظمات المجتمع المدني وما يدعى "اليسار الجديد". بل إن البعض منهم – مصاب بالصدمة وخيبة الأمل- تحولوا جذرياً إلى اعتناق تنويعات من الأصولية والولاء للبنى التقليدية. وكان من الملاحظ حجم المغادرات الجماعية للأحزاب وبروز نزوع انتهازي لدى البعض ممن اندمجوا في البنى التي وقفوا ضدها سابقاً، مستغلين القدرات الخطابية والتحليلية التي أتاحها اشتباكهم بمنهجيات الفلسفة المادية.
الآن، وبغض النظر عن أي تقييمات لصلاحية أفكار ثورة أكتوبر وما آلت إليه التجربة السوفياتية وتداعياتها العالمية، فإن من الممكن اقتراح أن انكسار مشروعها تسبب بنوع من اليُتم للمشروع التقدمي العربي. وقد اجتمعت الانتكاسة التي أصابت تجارب العقل العربي في التجديد، مع انكشاف العمق العربي، فيزيائياً، أمام التوغلات العسكرية الأجنبية. وكانت الخسائر جسيمة من حيث انبعاث السلطات الظلامية على حساب التنوير وبلا منافس، وعلى مستوى الدمار وسفك الدماء الذي نجم عن هيمنة هذه الاتجاهات وتمكين التدخلات الأجنبية التي أعدمت إمكانيات المنطقة بشرياً ومادياً فحسب.
مع ذلك، لا يمكن أن تؤدي أي شروط إلى محو الآثار العميقة التي أحدثتها ثورة أكتوبر السوفياتية في المشهد العربي، والأحلام والتأملات المستنيرة التي أضاءت مساحات أصبحت جزءاً بنيوياً نشطاً أبديّ الحضور في العقل العربي.