العرب.. دول تكبر ودول تصغر

قبل سنين تحدثت إلى سياسي بريطاني على رفعة في المستوى، وكان صريحا إلى الدرجة التي قال فيها، إن اغلب الدول العربية، لن تبقى كما هي على صعيد خريطة كل الدول، وهذه الدول، اما ستكبر، او تصغر، واغلبها لن يبقى على حاله، خلال السنين العشر المقبلة.اضافة اعلان
حاورته حول سبب هذا التصور، فأشار بكل وضوح إلى ان ترسيمات الخرائط في الأساس، تدخلت بها دول خارج المنطقة مثل بريطانيا وفرنسا، وان اغلب الخرائط، تمت صياغتها ضمن محددات معينة، وان إعادة الترسيم امر ليس جديدا، اذ حدث هذا من قبل، فلماذا يتحسس منه العرب اليوم، وفقا لمنطوقه، فحدود الدول في الأساس، رسمها الغرب.
في كل الأحوال فإن توقعات السياسي البريطاني، لم تكن وليدة رأي شخصي، إذ إنه يعتقد ان الكيانات الوطنية العربية في العموم، تعاني من مشاكل كثيرة، سياسيا واقتصاديا، إضافة إلى النزاعات بين مكونات كل دولة، وهو برأيه ما ثبت خلال السنين الأخيرة، من خلال تثوير الهويات الفرعية ضد الهوية الجامعة في دول كثيرة على أساس ديني او مذهبي او طائفي او عرقي، معتقدا ان عملية تثوير الهويات تأسست على مظالم متراكمة بين هذه الهويات، وأن أوان انفجارها لم يتأخر كثيرا بعد فشل أغلب الدول العربية في صياغة هوية جامعة وتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية والمساواة بين المواطنين.
علينا ان نلاحظ، اليوم، ان المنطقة تتعرض إلى ضغوطات شديدة، ومن الجهل الاستغراق في تحليل كل ظرف نراه في بلد عربي دون قراءة النتائج النهائية، خصوصا ان هذا الضغط الخارجي والطمع بالموارد والثروات، من جهة، والرغبة بتثوير الازمات والهويات، امر واضح، يجري توظيف وسائل كثيرة، في سياقاته، ابرزها الاعلام والأحزاب والدين والجماعات الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية، في ظل غياب العدالة، وشيوع الفساد، وانعدام القانون، وتفشي الخلافات، وتحويل المجتمعات إلى طبقات، بعضها منتفع وصامت، واغلبها متضرر وجائع وخائف، هذا فوق ان هذه البيئات مقموعة، والنار تحت الرماد فيها.
لكن لماذا يتوقع السياسي البريطاني ان لا دولة سوف تبقى كما هي على الخريطة، وان اغلب الدول سوف تتعرض إلى تغييرات، اما تكبر وتتوسع مساحتها، واما تصغر، بمعنى الانشطار إلى عدة دول، وهذا السؤال الذي فردته بين يدي السياسي البريطاني أجاب عليه بقوله إن بنية المنطقة بطبيعتها قابلة للتغيير، في ظل السمات سالفة الذكر، وانه حتى بدون ضغط خارجي فإن بنية اغلب الدول هشة وغير قابلة للاستمرار، ضاربا المثل بدول اكثر رفاهية في الغرب، واكثر صونا للحقوق والواجبات، وفيها عدالة، لكن مكوناتها تنزع للانفصال، وإعادة رسم الخرائط، كما في اسبانيا، او بريطانيا، او دول أخرى، معتقدا ان مهمة إطفاء أزمات الانفصال في الغرب، اسهل بكثير من العالم العربي، كون الازمات في منطقتنا لا تتوقف، وبسبب غياب الحلول الجذرية ومواصلة الظلم.
ربما هذا الحوار يبدو قديما، لكنه يستيقظ من جديد، مع المعلومات التي تتدفق حول مشاريع جديدة لإعادة رسم الخرائط في المنطقة، إذ إن الأدلة كثيرة على ان الضغط الخارجي لم يتراجع ويريد اضعاف هذه المنطقة لاعتبارات كثيرة، ويريد توليد دول جديدة، ولا يتراجع عن هذا المخطط، وربما يزيد من خطورته هذه الأيام، تعاظم الصراع بين قوى كبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة، واجندات إسرائيل، التي تسعى لتفتيت الدول على مستوى بنيتها الداخلية، عبر تحطيم الوحدة الاجتماعية، لاضعاف كل جوارها، وبما قد يمتد إلى ماهو ابعد.
مناسبة كل هذا الكلام، التحذير مجددا، من مشروع قديم-جديد، يريد إعادة ترسيم الخرائط، وعلى الرغم من اعتقاد كثيرين ان أزمات بعض الدول العربية، مثل سورية او العراق او أي بلد آخر قد انتهت، الا ان مخطط إعادة التقسيم، وإعادة الترسيم دخل مرحلته الثانية، هذه الفترة، وقد نرى أيضا، في دول عربية آمنة، اطلالات لأزمات جديدة، سواء ما نراه في السودان او الجزائر، ودول أخرى مقبلة على الطريق، وكما اشرت، فإن كل هذا التخطيط لا يجري دون سياق، بل يعتمد على بيئة خصبة بالأزمات والكراهية والتشظي الداخلي، وشيوع المظالم والفساد، وغياب العدالة والقانون، والفرص الكريمة أيضا.