العرض مكرور

كما هيَ العادةُ نهتمُ، نحنُ الإعلاميينَ، بموازنةِ الدولة، فنتسابق على نشر قيمتها وتحليل مضمونها، ومقارنتها بموازنات سنوات سابقة، وهذا طبيعي لما لمشروع قانون الموازنة العامة من أهمية بالغة، فهي في نهاية الأمر خطةُ البلد لسنةٍ مالية مقبلةٍ.اضافة اعلان
كتاب مشروع القانون الثقيل، والذي ما أزال أفضّل قراءته ورقيا، يحكي لنا ماذا فعلت الحكومات بنا وماذا ستفعل، وهذا الكتاب يخبئ الكثير بين ثناياه، بدءا من قيمة عدد أقلام الحبر التي اشترتها الحكومة وصولا إلى وضع مخصصات لتنفيذ خط الغاز الإسرائيلي.
الاهتمام الإعلامي بالموازنة نابع من تأثير هذا القانون على حياتنا وتفاصيلها، فهو يخبرنا إن كانت الحكومة تنوي، مثلا، زيادة ضريبة الدخل على الأفراد، ويحدثنا عن الزيادة المتوقعة من ضريبة المبيعات على السلع والخدمات.
قانون الضريبة لا يكذب فهو مرآة أحوالنا الاقتصادية الصعبة والقاسية، ومنه نعرف حجمَ مشكلات البلد، فحجمُ الدين العام واضحٌ صريح، وعجز الموارد عن الوفاء بالاحتياجات أيضا واضحٌ وصريح، وفاتورة التقاعد المدني التي تتضخم عاما بعد عام لتوفير تقاعد مجزٍ لكبار المسؤولين أيضا بيّنة. لذلك كله فقانون الضريبة مهمٌ وخطير.
أهمية القانون وتأثيره البالغ في تفصيل عام مقبل لا تجد صداها في المجالس النيابية، فنحن اعتدنا على تكرار توصيات اللجنة المالية دون تغييرات تذكر، عدا إجراءات شكلية جرت في هذا البند أو ذاك.
لنستعرض معا خطوات إعداد الموازنة؛ البدء في دائرة الموازنة العامة التي تطلب من الوزارات والدوائر تزويدها بالاحتياجات بعد تحديد سقف الإنفاق المطلوب بسرية تامة، ننتقل بعدها إلى وزارة المالية ليرتفع هناك منسوب السرية، ويتحرك الملف إلى رئاسة الوزراء، وأيضا بسرية كبيرة.
معرفة تفاصيل الموازنة العامة أحد الأسرار المهمة التي لا تنكشف إلا بعد إقرارها من مجلس الوزراء وتحويلها لمجلس النواب. هنا المشهد مختلف، إذ يُحوَّلُ المشروعُ إلى اللجنة المالية للنواب، ليبدأ "ماراثون" اجتماعات متتالية لا ينتهي؛ مسؤولون يروحون ويجيئون، وإعلامٌ يسعى خلف معلومة جديدة، وكاميرات تترصد كل حركة علّها تقتنص ما يشي بمعلومة.
كل هذا الاهتمام والأهمية، وفي النهاية تأتي الحكومات بموازنات متشابهة لا تختلف كثيرا عن تلك التي سبقتها، اللهم إلا من حيث زيادة النفقات، وكأننا دولةٌ ثرية! إضافة إلى تفاصيلَ ترشدنا إلى نتائج قرارات صعبة ستتخذ خلال السنة المالية، وتخرج توصيات النواب متطابقة بنسبة كبيرة مع تلك التي جاءت في سنة سابقة، فلا تغييرات تذكر ولا تعديلات مفيدة، وبالنهاية تقر كما جاءت من الحكومة.
ثمةَ قدسيةٌ يحاط بها قانون الموازنة، إذ يمنع المس به أو بأقل تفاصيله أهمية، ولذلك ترى القانون يدخل مجلس الأمة ويخرج منه، تماما، كما جاء دون زيادة أو نقصان.
على كل حال اعتدنا هذا المشهد منذ سنوات بعيدة، وفي كل سنة يُعادُ المشهدُ نفسُهُ والخطابات نفسُها، والإجراءات نفسُها، وكأنَّ الحكوماتِ مصرة، كما النواب مصرون، على الإبقاء على صورة باتت باهتة لكثرة استنساخها.
بالمحصلة الحكومة والنواب في عجلة من أمرهم ويرغبون بإقرار القانون بأسرع وقت ممكن، وسيقر كما جاء من الحكومة، وستستحق خلال العام 2018 قرارات برفع أسعار الخبز وتقديم الدعم النقدي، وسيزيد العبء الضريبي على المكلفين، وسيرتفع الدين العام، وأيضا فاتورة التقاعد!
مجلس النواب الثامن عشر المبجّل سجل سابقةً لم تحدث في تاريخ المجالس النيابية، إذ ناقش وخطب وصوّت على مشروع قانون الموازنة العامة، وأقره بالإجماع، وكأنهم يقرّون مشروع قانون يمنع الأغبياء من دخول الجامعة، كما في الصين مثلا.
انتهى الاستعراض غير المفيد في مجلس النواب بانتظار إقراره من مجلس الأعيان، وستقر الموازنة العامة كما جاءت، وسيكون الشخص الأسعد بهذه الخطوة وزير المالية عمر ملحس، لأنه سيظفر بما يريد كوزير للمالية، أما أكثر من تعب لأجل ذلك فكان النواب لكثرةِ ما رفعوا أيديهم بالموافقة!