العلاقات الأميركية-الإيرانية.. أيديولوجية الخطاب وبراغماتية السياسات

 بين "الشيطان الأكبر" أميركا، بحسب الوصف الإيراني، وإيران التي تقع في القلب من "دول محور الشر"، بحسب الرئيس جورج بوش، هناك الكثير من الأحقاد التي نزفت دما، والتي تجد جذورها الحديثة بعيدا عن الثورة الإسلامية، وتحديدا منذ بدء النفوذ الأميركي في إيران، عقب دعم الولايات المتحدة للانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس وزراء إيران "محمد مصدق" في العام 1954، بعد محاولته تأميم الصناعة النفطية في إيران.

اضافة اعلان

ورغم أن الثورة الإسلامية في إيران كانت نقطة انعطاف حاد، نقلت العلاقة بين البلدين من التحالف الحميم إلى العداوة السافرة، إلا إن العلاقات الأميركية-الإيرانية بدت أحيانا، نموذجا صادقا لمقولة أنه "ليس هناك في السياسة عدو دائم أو صديق دائم".

فرغم المواجهة بين الطرفين على الأراضي اللبنانية إبان الحرب الأهلية هناك، من خلال تفجير السفارة الأميركية في بيروت في نيسان 1983، ثم تفجير مقر قوات البحرية الأميركية (المارينز) في مطار بيروت في تشرين الأول من ذات العام -وهي العمليات التي تشتبه الولايات المتحدة بوقوف حزب الله المدعوم إيرانيا خلفها- برغم ذلك، كان الطرفان، يعقدان صفقة في العام 1985 لمقايضة الرهائن الأميركيين في لبنان بأسلحة أميركية، تقدم لإيران "الخميني" عبر إسرائيل! فيما عرف لاحقا بفضيحة "إيران-كونترا".

بشكل عام، بدا أن العلاقات الأميركية-الإيرانية تتخذ شكلا محددا من العداء المتخم بالعقوبات الأميركية. لكن التحول المتوقع كان بالتأكيد عقب أحداث الحادي عشر من أيلول، وبداية الحرب الأميركية على "الإرهاب".

فإذا كان من المنطقي أن تكون بداية الحرب من أفغانستان، معقل جماعة طالبان التي تحمي أسامة بن لادن، الذي اعتبر وتنظيمه القاعدة، المسؤول الأول عن تلك الهجمات، إلا أن ذات المنطق كان يفترض بإيران أن تكون ساحة المعركة التالية؛ ليس فقط لأنها، من وجهة النظر الأميركية، الراعية الرئيسة والأخطر للإرهاب في العالم، والذي يشمل دعمها لحزب الله اللبناني المسؤول عن تحرير جنوب لبنان، إضافة إلى دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وغيرها من التنظيمات الرافضة للتسوية مع إسرائيل، في فلسطين. فإضافة إلى ذلك، وقبل شهرين فقط من هجمات الحادي عشر من أيلول، وتحديدا في حزيران من العام 2001، اتهمت هيئة محلفين فيدرالية كبرى إيران بتقديم الدعم لمنفذي تفجير الخبر بالسعودية في حزيران 1996، الذي استهدف مقرا للجنود الأميركيين هناك، واسفر عن مقتل 240 جنديا أميركيا من أصل 500 قتيل هم ضحايا التفجير.

وإذا كانت الإدارة الأميركية قررت أن يكون العراق ساحة معركتها الثانية على "الإرهاب" لأسباب عديدة، فلم تلبث إيران أن استعادت مكانتها مرشحة كساحة جديدة للحرب على "الإرهاب"، لا سيما بعد تكشف التقدم في البرنامج النووي الإيراني، وبما يسمح لها، بحسب التقديرات الأميركية، بإنتاج قنبلة ذرية خلال عقد من الزمن على أبعد تقدير. وبدت مثل هذه التكهنات وشيكة التحقق بعد نشر الصحافي الأميركي واسع النفوذ في دوائر صنع القرار في الإدارة الأميركية، سيمور هيرش، مقالته "الحروب القادمة" (مجلة نيويوركر، 17 كانون الثاني 2005)، التي نسب فيها إلى وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، وعلى لسان أحد كبار المسؤوليين السابقين في المخابرات الأميركية، قوله عقب إعادة انتخاب الرئيس بوش: "إنها حرب على الإرهاب، والعراق ليس سوى حملة...تاليا سيكون لدينا حملة على إيران". وأشار هيرش في ذات المقالة إلى أن "الإدارة [الاميركية] تقوم بمهمات استطلاع داخل إيران منذ الصيف الماضي على الاقل... الغاية منها تعريف وتحديد ثلاث مجموعات أو أكثر من الاهداف (النووية والكيماوية ومواقع الصواريخ) التي يمكن تدميرها عبر ضربات محكمة وغارات كوماندوز قصيرة المدى". لكن، هل يبدو الخيار العسكري ضد إيران ممكنا من ناحية منطقية، سواء بشكل مباشر، أو عبر إسرائيل، التي كان وزير خارجيتها سلفان شالوم قد صرح في كانون الثاني 2005 بأن: "إسرائيل لا تستطيع العيش مع إيران تملك قنبلة نووية"؟     

من الناحية النظرية، بدت إيران بعد الغزو الأميركي لجارتيها أفغانستان والعراق، لقمة سائغة بالنسبة للأميركيين، وقد أطبقوا عليها بشكل أقرب إلى الحصار التام، لكن الحقيقة-المفارقة أن إيران كانت الدولة الأكثر استفادة من الحرب الأميركية على "الإرهاب"، التي تم بفضلها، ابتداء، القضاء على طالبان، والانتصار لتحالف الشمال ذي الاغلبية الشيعية والمدعوم من إيران. صحيح أن طالبان تم استبدالها بقوات أميركية لا تقل عداء لإيران، بل وبتجهيزات هي الأفضل في العالم، لكن الولايات المتحدة ما لبثت أن تورطت في العراق، جاعلة منه ورقة شديدة التأثير لمصلحة إيران في علاقاتها مع أميركا. وبحسب "كريم سادجادبور"، محلل الشؤون الإيرانية في مجموعة الأزمات الدولية (التي كانت قد أصدرت، في 21 آذار 2005، تقريرا يؤكد عدم تورط إيران في أعمال العنف في العراق)، فإن "الأميركيين يمتلكون القوة المادية (Hard Power) في العراق، لكن الإيرانيين يمتلكون قوة ناعمة (Soft Power)، وهم قادرون على فعل أشياء. إنه تأثير خفي أكبر بكثير مما لدى الاميركيين" (كريستيان ساينس مونيتور، 20 أيار 2005). ويضاف إلى العراق، قدرة إيران على زعزعة استقرار منطقة الخليج العربي والمنطقة العربية بشكل عام، من خلال استغلال المذهبية الشيعية، ولربما العرقية الفارسية هناك، والأمثلة على ذلك كثيرة.

باختصار، يبدو التناقض في أنه كلما ازدادت أميركا تطويقا لإيران، ازدادت حرية هذه الأخيرة، وقدرتها على المناورة، بل وحتى قوتها.

برغم كل ما سبق، يبقى احتمال المواجهة العسكرية بين إيران والولايات المتحدة (أو إسرائيل)، في ظل قيادتيهما المحافظتين واردا. إلا أن السيناريو الأكثر منطقية للعلاقات الإيرانية-الاميركية يتمثل في ذلك الذي قدمه كينيث بولاك، المسؤول السابق عن شؤون منطقة الخليج العربي والشرق الادنى وجنوب شرق آسيا في مجلس الامن القومي الأميركي، وهو السيناريو القائم على ثلاثة مسارات/مراحل متمايزة لكنها في الواقع متداخلة، وهي:

1-    الصفقة الكبرى: وتتضمن تسوية شاملة للقضايا كافة العالقة ما بين الطرفين.

2-    سياسة "العصا والجزرة".

3-    نظام الاحتواء الجديد (متعدد الأطراف). 

من الواضح أن الولايات المتحدة قررت حتى الآن الأخذ بسياسة المسارات الثلاثة، ولكن بشكل عكسي متداخل، أي من الاحتواء إلى الصفقة الكبرى. فبعد إصرار على عقم المفاوضات مع إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووي تحديدا، انتقلت الولايات المتحدة، وتحت ضغط حلفائها الاوروبيين، لا سيما بريطانيا وألمانيا وفرنسا التي تتفاوض مع إيران، انتقلت إلى سياسة العصا والجزرة، بإعلان وزيرة الخارجية رايس، في 11 آذار الماضي، أن "الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ خطوات عملية ملموسة لدعم مسار ثلاثية الاتحاد الأوروبي الديبلوماسي، ولن تواصل الوقوف في طريق طلب إيران الانضمام إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، وستنظر في أمر إجازة تصدير قطع غيار لطائرات الركاب المدنية الإيرانية". وطبعا، يفترض أن المقابل الأوروبي هو الانضمام إلى الولايات المتحدة في احتواء إيران في حال فشل المفاوضات معها.

لكن ما هو الموقف الإيراني الذي سيحدد بالضرورة سياسة الولايات المتحدة هنا؟ باستثناء تبني خيار شمشون، الذي سيضر بإيران أكثر من أي بلد آخر، يمكن القول إن القيادة الإيرانية، محافظة أو معتدلة، لا تسعى أبدا إلى أية مواجهة مع الولايات المتحدة. ومن ثم، يمكن تفسير التشدد الإيراني بشأن الملف النووي خصوصا من ناحيتين. تتمثل الأولى بالسعي إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية، التي تبدو اليوم، في بلد يقدر البنك الدولي نسبة سكانه القابعين تحت خط الفقر بـ21%، عاملا حاسما أكثر من أي وقت مضى. إذ بحسب مسؤولين إيرانيين رسميين، تحتاج إيران في السنوات الخمس القادمة على الأقل، إلى 20 مليار دولار من الاستثمارات سنويا لمواجهة الطلب على العمل فيها، فيما تقدر شركة النفط الوطنية الإيرانية متطلبات تطوير البنية التحتية لهذه الصناعة بـ70 مليار دولار.

أما الناحية الثانية، فهي أن البرنامج النووي يبدو أحد أدوات كسب التأييد الشعبي في إيران، ولا سيما من قبل التيار المحافظ. فخلافا للصورة الكورية الشمالية التي أوصلت الشعب هناك إلى المجاعة، فإن القدرة النووية هي قضية فخر وطني، ومطلب شعبي في إيران، وليست طموحا نخبويا يقوده الملالي.

ويبقى القول، إن الضغط الاقتصادي والسياسي قد لا يكون المدخل إلى منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وإدماجها في المنظومة العالمية المشكلّة غربيا، بل وأيضا نزع سلاح حزب الله اللبناني.