الفردانية المحرِّرة

يؤشر بصعود حركات الحقوق الفردية والثقافية والبيئية والنسوية لمرحلة جديدة من القيم المنظمة للمجتمعات، ونهاية المجتمعات كإطار شامل ومهيمن يحدد الأهداف السياسية للدولة وتنظيم الموارد وضبط الأفراد وتنظيمهم في منظومات وقوانين اجتماعية. واليوم فإن الدولة التي أضعفت المجتمعات وألحقتها بها تتعرض هي نفسها لتسلط السوق والشركات، وتلحق بالمجتمعات، ويقف الفرد وحيدا في مواجهة تسلط قوى السوق والعنف والاحتكار! ورغم ما في ذلك من مساوئ وسلبيات تغري المتشائمين، فإنها بيئة اجتماعية واقتصادية تؤسس لمرحلة الفرد المؤثر أو القادر أو "الذات الفاعلة".اضافة اعلان
فالمواطن الذي يواجه اليوم متطلبات الحرية والحياة الكريمة من غير دعم أو مشاركة من أحزاب سياسية أو منظمات اجتماعية أو مؤسسات حكومية، لا يجد مفرا من أن يؤدي هو بذاته ما كانت تؤديه الأحزاب والمنظمات والنقابات والحكومات، ويبحث بطبيعة الحال عن الفرص الجديدة الممكنة، ويمكن أن نجد في حياتنا وفي العالم حولنا، عددا كبيرا من مؤشرات صعود الفرد بما هو مؤسسة اجتماعية وسياسية، وفي المقابل انحسار تأثير وأداء المؤسسات الاجتماعية والسياسية.
فالأفراد الذين يعلمون أنفسهم معتمدين على الشبكة أو يحلون مشكلات كثيرة كانت تحتاج إلى تكاليف ومهارات معقدة مثل الصيانة والتصميم والبحث عن سلع وخدمات والتسويق والعمل، ومن الطريف جدا أن قوى التقدم والريادة في المرحلة السابقة أصبحت رجعية؛ إذ يشعر المتخصصون والمهنيون اليوم بالانزعاج والمنافسة من العمل الفردي المستقل عن المؤسسات والمتخصصين في العمل والتعليم والتداوي والكتابة والنشر والإفتاء والاستشارات والتفاعل الاجتماعي والسياسي، والأعمال الفنية والإعلامية الفردية والمستقلة، ورغم صحة كثير من الأدلة والشواهد التي يقدمها المتخصصون على الضعف والأخطاء في محاولات الأفراد مواجهة احتياجاتهم مستقلين، فإنها أيضا تفيض بالعجرفة والشعور بالتهديد والانحسار؛ انحسار كثير من المهن والأعمال والمؤسسات والمنظمات والجماعات والأحزاب، ومعها بطبيعة الحال قيم وأفكار ونظريات وتجارب وتراث هائل متراكم من الإنتاج الفكري والعلمي والفني والأدبي والمؤسسي.
وبطبيعة الحال، وكما يؤكد التاريخ، فإن نهاية مرحلة وابتداء مرحلة جديدة تصحبها انهيارات وكوارث، فالقوى الإيجابية الفاعلة ليست جاهزة ومستعدة فورا لتحل مكان المنظومات السابقة التي هيمنت على الحياة والأعمال والأفكار والقيم، هكذا ففي انسحاب الدولة والمجتمع تصعد العشائر والطوائف والجماعات الدينية وجماعات الأتاوات، وتكون الصراعات الأهلية والدينية، كما تنشأ تحالفات ضدية بين الجماعات والأفراد والشركات، ويمكن في هذا السياق ملاحظة كثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية الجديدة حولنا، مثل الاكتئاب والانتحار والسطو على البنوك وعمالة الأطفال والاتجار بالبشر والأزمات المرورية والسلوك غير الاجتماعي، لكن يمكن أيضا في هذا الركام ملاحظة كثير من الظواهر الإيجابية الجديدة، مثل الأعمال والخدمات الجديدة في النقل والتوصيل والعمل والتعليم المنزلي والفردي والعمل من بعد، والجدالات والتفاعلات الشبكية حول القضايا والأفكار الدينية والوطنية والثقافية والتواصل الاجتماعي وتبادل المهارات والمعارف بيسر وفاعلية.
الفرد؛ كل فرد تقريبا، يمتلك اليوم من الكتب والأفلام والموسيقى والدراسات والأوراق العلمية والوثائق والمخطوطات والمحاضرات وورش العمل والتدريب والقدرة على الوصول والتواصل مع وسائل الإعلام والجامعات ومراكز الدراسات ما يساوي في قيمته وتكلفته لو جرى تحويله إلى موجودات مادية ملموسة مئات المليارات من الدنانير! ومؤكد أن هذه الموارد الهائلة المتاحة للفرد تجعل منه قوة جديدة مؤثرة تتجاوز السلطات والمجتمعات والشركات.