الفرق بين الخيال والأوهام في السياسة

هل نملك قدرة ولو معقولة على فهم العالم من حولنا او على اقل تقدير فهم طبيعة السياسة التي تسير الاقليم، وما يشهده من تغيرات حادة في الاستراتيجيات وفي التحالفات وفي الاقتصاد وحتى في الثقافة، وما ينتظره خلال الاعوام القليلة القادمة، هل نفهم ديناميات التحولات التي يشهدها المجتمع والسلطة في اسرائيل وكيف يتغير المجتمع السياسي هناك وهل تتغير الاولويات والرؤية الاستراتيجية للصراع، وهل لدينا ادواتنا لفهم ما يجري في الخليج وما هي محركات الصراعات الجديدة وماذا بعد سنوات النفط الرخيص، كيف سيعاد بناء المشرق العربي بعد سنوات الصراع المريرة وهل ننتظر قوى فاعلة جديدة وشروطا جديدة للعبة السياسية في المنطقة. اضافة اعلان
هناك حاجة اليوم الى قدرات ابتكارية فعلية وغير عادية في تقدير المواقف وبناء التوقعات والاشارة الى اين تسير الاحداث، مع نهاية عام وبداية عام جديد نكتشف كما ثبت في آخر خمسة أعوام ان العالم يشهد تغيرا جذريا ولكنه غامض في القوى الفاعلة على الأرض فيما مازالت الدول والكيانات تتصارع وتتعاون على نفس القضايا وفي المجالات ذاتها. تقدير الموقف في هذه المرحلة يحتاج رؤية متعددة المداخل لا تكتفي بالامني والسياسي والاقتصادي، بل تتجاوز ذلك لفهم الآليات الاجتماعية والثقافية التي تصوغ التفاعلات الجديدة والقوى الفاعلة الجديدة، وتنتبه الى الاجيال الجديدة من الشباب وفهمهم للعالم الجديد من جهة، وتصورهم للذات والمستقبل في ضوء ما يحيط بهم من ظروف سياسية واقتصادية.
هناك فرق بين تقدير الموقف القائم على ادراك لكافة تفاصيل المشهد والقادر على بناء خريطة توقعات ذكية، وبين الركون الى الطمأنينة الزائفة. كما ان هناك فرقا بين التقدير الاستراتيجي والمغامرة الاستراتيجية؛ فالجماعات الاختراقية الصغيرة ستكون احد ابرز اشكال التهديد القادم وقد لا يشترط ارتباطها المباشر بالتنظيمات الكبيرة او المؤسسات والكيانات، والعوامل المؤثرة والفاعلة غير المعلومة ستزداد مساحة حضورها ليس لشيء اكثر من عدم القدرة على تحديد من هم الفاعلون الحقيقيون في الاحداث.
لعل ابرز سمة قابلة لوصف التوقعات السياسية والاستراتيجية للعام الجديد هي عدم اليقين والشك في الكثير من السيناريوهات والاحتمالات المرجحة التي تتردد حاليا، فقد تعلم العالم من خبرة السنوات الاخيرة ان هناك احتمالا كبيرا دوما لتغيير التوقعات رأسا على عقب وبروز تحولات غير مدركة وخارج دائرة الحدس السياسي والاستراتيجي تغير مسار الاحداث تماما. او بروز ظواهر غير متوقعة تتجاوز نظم المراقبة وبناء التوقعات.
عكس ما قد يتوقع كثيرون تزداد الحاجة اليوم للمزيد من تنمية الخيال السياسي في عصر اللايقين وفقدان الشعوب ثقتها بالنخب وتحجيم دور المؤسسات، يبدو العالم العربي احد الامثلة الاكثر وضوحا لفقر الخيال السياسي لدى النخب الحاكمة وحتى النخب المثقفة، فمنذ ثلاثة عقود تعصف بالمنطقة الصدمات والمفاجآت دون ان تطور هذه النخب قدراتها في ادراك ما يحدث حولها ولعل الثورات والتحولات العربية وما آلت اليه المثال الابرز في هذا المجال وهذا ما ينسحب على تحولات الطاقة وازمة اسعار النفط والعلاقات الدولية والاقليمية وتمدد الدور الروسي وتحولات الاسلام السياسي وحركات التطرف.
بالطبع الخيال السياسي الجماعي لا يقصد به الخيال السياسي الفردي الذي طالما مارسه الافراد في الانظمة الشمولية ولا الافراط في التشريق والتغريب في الاوهام والضلالات بدون اساس علمي او منطقي، الخيال الجماعي يعني قدرة النخب السياسية على استشعار مصادر التهديد واكتشاف الفرص، اي الاستثمار السياسي في ابداع الافكار الجديدة المختلفة والاستثمار في القدرة على قراءة الماضي وتفسير الحاضر واعادة تعريف المصالح، واحيانا البحث عن ادوات مختلفة لقراءة التحولات، الخيال السياسي يختلف تماما عن الاوهام السياسية، حينما يعبر عن ارادة ورغبة في تجاوز الازمات والبحث عن حلول مبتكرة وغير تقليدية.