الفضاء العام: ترشيد صعب وتنظيم مستحيل

تقدم خدمة في مثل هذا اليوم في منصات فيسبوك فرصة مهمة للتأمل في الأفكار والتفاعل معها، وفي علاقة الناس بالفضاء العام وتحولاتها، وفي قدرتنا ورغبتنا أيضا في بناء مجال عام لتبادل التأثير والجدل، وإشكاليات ترشيد الجدل العام ليكون مؤثرا باتجاه مصالح المجتمعات والأفراد والصالح العام؛ إذ يفترض ببساطة أن المجتمعات والطبقات تعبر عن مصالحها وأفكارها وأن السياسات والتشريعات كما الثقافة والقيم المنظمة للعلاقات تعبر عن هذه التفاعلات والتسويات الممكن التوصل إليها. هكذا يفترض أن شبكات التواصل تعكس الساحة العامة (أغورا أو زارا) بما هي قلب المدينة، حيث كانت تعمل الأسواق واللقاءات العامة والثقافية والمؤسسات التنظيمية، لكن في غياب هذا الفضاء الواقعي لن تكون شبكات التواصل قادرة على العمل الإيجابي، لأنها لا تعكس واقعا قائما، وهي أيضا وبالضرورة لا تنشئ واقعا عاما، وهكذا فإن المدونين والمواطنين في استخدامهم لشبكات التواصل لن يكون في مقدورهم التأثير الفاعل والإيجابي في السياسات والتشريعات والاتجاهات العامة، ليس سوى الإزعاج والاحتجاج للسلطات والنخب والخصوم، وفي المقابل فإن السلطة السياسية والنخب والقيادات والمنظمات الوسيطة بين المجتمع والدولة لن تكون قادرة على بناء اتجاهات عامة والتأثير في الرأي العام إلا بقدر وجود واقعي للتفاعل السياسي والاجتماعي بين الطبقات والمصالح والنخب والاتجاهات والأفكار. وفي ذلك يمكن الملاحظة كيف لم تتغير على مر السنين الأفكار والملاحظات والجدالات السياسية والعامة، القصص نفسها لم تتغير، والملاحظات والتصريحات والردود، .. السياسات الضريبية للحكومة والانفاق العام لم يتحرك خطوة واحدة في السنوات العشر الماضية. ويتطابق رؤساء الحكومات والوزراء في السلوك والتصريحات والأفكار والاتجاهات كأنهم مستنسخون. لكن أيضا يبدو واضحا النضوب والانهاك الذي يصيب المعارضين والإصلاحيين والاتجاهات السياسية والاجتماعية والناشطين والحراكات، أفضلهم حالا من يعمل بلا ملل ولا أمل. وفي المقابل ثمة جلد عظيم وحيوية حكومية في الإصرار على سياسات تجمع الأمة على ضررها، وتواصل الحكومة الاستعلاء والعجرفة والعزلة عن الناس واستنزاف الوطن والموارد والمواطنين، بلا فرق يذكر بين رؤساء الحكومات والوزراء، وكأنهم شخص واحد لم يتغير. ويبدو أيضا أن شبكات التواصل تقدم حيويتها وقدرتها على إنشاء تفاعل حقيقي يؤدي إلى جدالات وحوارات وعصف ذهني وبلورة أفكار واتجاهات عملية حول السياسات والتشريعات ومنظومات الحياة العامة، .. تتحول الشبكة إلى منصات تقليدية تستنسخ وتعيد وسائل الإعلام التقليدية (الصحف والإذاعات ومحطات التلفزة) وتمضي باتجاه أكثر عزلة وأقل جاذبية وتأثيرا. وقد تتحول إلى مؤسسات تقليدية منظمة وخاضعة لتنظيم مركزي وقاس، ويعكس مصالح احتكارية وسياسية أكثر مما هو فضاء مفتوح ومتاح لجميع الناس للتأثير والمشاركة، .. لم تتكرر وتتنوع تجربة ويكيبيديا على سبيل المثال. ويمكن الملاحظة على مدى السنين كيف تتعرض شبكات التواصل للابتزاز والاغواء والانسياق في تحالفات فوقية ونخبوية تعمل ضد الأغلبية الكبرى من المستخدمين لصالح قلة من المتنمرين. وقد تتحول إلى ساحات خطيرة يهيمن عليها أو يؤثر فيها بقوة المهربون وجماعات الاتجار بالبشر والعصابات المنظمة والذباب الإلكتروني. وربما يتحول استخدام فيسبوك إلى ما يشبه ارتياد الأماكن المشبوهة، أو الساحات البائسة التي ينتشر فيها متسولون وجائلون وباحثون عن فرص وأعمال رثة وسوف تنهال إلى درجة الاغراق على كل من يقترب من فيسبوك عروض تجعله غير قادر على التنفس وليس أمامه سوى الهروب. وبالطبع فلا يعني ذلك أن الحالة العامة ستكون أسوأ. العكس سوف تبدع الإنسانية أدوات وأوعية جديدة أقوى وأجمل اثرا واقرب إلى المعنى.اضافة اعلان