الفقراء واقتصاد السوق..!

الحل المقترح لإصلاح الاقتصاد الأردني، هو التحول عن الاقتصاد المخطط مركزياً، الذي تديره الحكومة، إلى "اقتصاد السوق". ويعني اقتصاد السوق أن تتولى ديناميات السوق الذاتية تحريك النشاط الاقتصادي، بحيث تسترشد القرارات الاقتصادية والأسعار التفاعلات بين الناس والشركات، وبالحد الأدنى من التدخل الحكومي أو التخطيط المركزي.اضافة اعلان
لكن تحرير السوق بالخصخصة ورفع الدعم عن المواطنين يعني وضع المواطنين بلا مقدمات أمام خبرة التعامل مع قوى السوق، بطريقة تفترض النظرية أنها ستحدد الأنسب لتحقيق رفاه الأمة جميعاً. وهكذا، ينبغي أن تتحدد كيفية تفاعل قوى السوق والعرض والطلب بالقرارات الاقتصادية الرشيدة للمستهلك والمنتج، بحيث تتحقق نقطة التوازن التي تكفل المنفعة القصوى ضمن شروط السوق. وببساطة، يعني قانون العرض والطلب أن المستهلك لن يشتري السلعة التي يجد أن قيمتها لا تعادل منفعتها. وعندما تبور سلعة المنتج، سيفكر المنتج باختصار الأرباح وخفض السعر ليقنع المستهلك بشراء سلعته، ويتحدد السعر الأنسب عند تقاطع منحنيات العرض والطلب في الوضع المثالي.
هذا التوجه الذي يُوصى به للأردن، ويُشترط عليه أيضاً لاستحقاق القروض والمساعدات، أن ينتسب مبدئياً إلى نظرة الليبرالية الجديدة neo-liberalism، التي تفترض أن الناس يتخذون في إطارها "خيارات حرة وعقلانية". فإلى أي مدى هُيئ الأردنيون لمواجهة شروط تحرير السوق؟
بتعريف النظرية، تعني "خيارات" على مستوى الاقتصاد، أن تتوفر للمستهلك بدائل سلعية يختار منها ما يناسب قدراته وحاجاته. وفي الاقتصادات الراسخة، يتيح مزيج المعروض من البضائع المحلية والمستوردة طائفة من الخيارات، تتنافس على اجتذاب المستهلك بأسعارها ونوعيتها، بما يفيد توازن الأسعار. أما لدينا، فالصناعة المحلية ليست منافسة في النوعية. وإذا كانت رخيصة، فسرعة تلفها تجعلها أغلى من المستورد. كما أفضى رفع الدعم الحكومي عن الكثير من المواد الداخلة في التصنيع أو اللوجستية إلى رفع الأسعار بما قلل خيارات المواطنين الشحيحة أصلاً. (رفع أسعار الوقود والكهرباء، وبالتالي ارتفاع السلع الاستهلاكية المرتبطة هو أمر ليس فيه اختيار؛ وخصخصة التعليم، وضعت المواطن بين خياري تعليم عالي الكلفة وغير نوعي غالباً، وتعليم حكومي قليل الكلفة، لكنه طارد). وحتى الخضراوات والأغذية، كلها يشتريها المواطن مجبراً بشروط المنتج وبلا خيارات تقريباً، دون إغفال ثقافة الاستهلاك والتباهي الاجتماعي.
"الحُرية" مسألة مضافة حتماً إلى "الاختيار". عندما تكون حراً، وإنما بلا خيارات، فلا معنى للحرية. كما أن توفر الخيارات بلا امتلاك حرية الاختيار بلا معنى أيضاً. وفي سياق سياسي، اجتماعي، اقتصادي أكبر الغائبين فيه هما الحرية والخيارات، يصبح اتخاذ "خيارات حرة..." تخيلاً طوباوياً.
أن يكون الخيار الحر "عقلانياً" هي مشكلة أيضاً. هناك علاقة حتمية بين الخيارات، والحرية، والعقلانية. وفي غياب المقدمات الديمقراطية، يزدهر الفساد والطبقية ويكثر الفقراء الذين بلا حرية ولا خيارات ولا اختيار. وحسب مقال ذي صلة عن بحث نشرته دورية "العلوم"، تقول الأطروحة: "الفقر يأسر انتباه صاحبه، ويولد الأفكار الدخيلة، ويقلل الموارد الإدراكية". بعبارة أخرى "عندما يكون بال المرء منشغلاً كلية بالمشاكل، تضطرب عنده ملكة الإدراك اللازمة لتوجيه الاختيار والسلوك بطريقة عقلانية". ماذا يفعل الفقير الذي تثقل عقله المشاكل في مسألة اتخاذ "خيارات حرة وعقلانية" في سوق شرسة، يقابله فيها التاجر المسترخي المعتاد على اتخاذ القرار، و"الحر" نسبياً بنقوده وصلاته بطبقة السلطة؟
يقول الكاتب الأميركي لورنس دافيدسون: "ينتج نظامنا الاقتصادي معدلات البطالة العالية أو العمالة الناقصة، وضعف الأداء في المدرسة أو في العمل (عندما يكون أيهما متوفراً)، وسوء التغذية والعادات الغذائية البائسة... وارتفاع معدلات الجريمة... وانتشار أمراض تمكن الوقاية منها، ومعدل أعمار أقصر، وجميع التقلبات الأخرى التي عادة ما ترتبط بحياة الفقر. مع ذلك، سيقول أنصار الليبرالية الجديدة إن أياً من ذلك ليس خطأ المجتمع أو مسؤوليته، وإنما خطأ الفرد الذي (ما دام يعيش في بيئة اقتصادية حرة)، يتخذ خياراته الخاصة، ويجب عليه أن يتعايش مع العواقب".
في اقتصاد اعتمد فيه الفقراء طويلاً على رعاية الحكومة، في شكل دعم السلع أو الوظائف التابعة لجهاز الدولة، في غياب بنية سياسية واقتصادية تنافسية وحرة، كيف سيفيد الفقراء من تحرير الاقتصاد ما لم يبدأ الأمر من الخيارات، الاختيار، الحرية، فالعقلانية: من الديمقراطية؟!

[email protected]

alaeddin1963@