أفكار ومواقف

الفقر بعيون الكاميرات

إعلامية لبنانية جريئة جالت مع كاميرا برنامجها الذي تبثه إحدى المحطات اللبنانية على الأحياء الفقيرة في العاصمة بيروت. عبرت الأزقة، ودخلت أشباه وبقايا بيوت والتقت أصحابها؛ الآباء البائسين، والأمهات المستسلمات لأقدارهن، والأبناء الذين يعيشون على هامش الحياة.
للكاميرا عيون أكثر إنسانية من عيون الإنسان؛ عرّت مجتمعات تواطأت على حياة أبنائها، وفضحت مؤسسات تخلت عن دورها، وكشفت أنظمة تفتقد الرؤية، غفلت عن مسؤولياتها حتى لم تعد ترى أو تسمع لجوء مواطنين إلى بيوت تأكل جدرانها الرطوبة، ويسكنها البرد، وتمتلىء فضاءاتها بالخوف. الأثاث، أو ما يفترض أنه أثاث، قطع معدنية وخشبية متناثرة من غير ترتيب، ولا توحي إلا بانتهاء صلاحيتها للاستعمال. وأما الساكنون، فهم كمن انتهت صلاحياتهم للحياة. بؤس، وإحباط، وهزال، ووجوه اختطف منها الأمل حتى كادت تنمحي ملامحها.
تسأل الإعلامية الأطفال حيثما تلتقيهم: ماذا تغديتم اليوم؟ ويجيب الأطفال: بطاطا. وبالأمس؟ الجواب: بطاطا. هل لديكم ألعاب؟ الجواب: لا. هل تأكلون لحمة؟ أجاب أحدهم: لا. متى آخر مرة أكلتم فيها لحمة؟ الجواب: في رمضان.
تابعت البرنامج حتى دخول صاحبته إلى منطقة صبرا التي اشتهر اسمها من مذبحة صبرا وشاتيلا، وبعد مقابلة أول طفل لم استطع المتابعة ونقلت إلى قناة أخرى.
مدن الصفيح، والعشوائيات، وأحزمة البؤس التي أحاطت بالمدن، شكلتها مجموعات بشرية تلهث وراء فرص العمل وتوافر الخدمات، ودفعت بها إلى أقدارها حكومات استنكفت عن القيام بواجبها ونسيت كل ما هو خارج العواصم والمدن، ما أدى إلى ضعف التنمية وتحيزها، وسوء توزيع عوائد النمو، وتزايد البطالة وتناسل الفقر. وفي لبنان ودول المواجهة العربية كان لعنصرية الدولة العبرية وشهواتها العدوانية يد طولى في تعزيز هذا الواقع المرير.
حتى لا نحصر الأمر في لبنان التي كانت موضوع الحديث بسبب فضائيتها الجريئة وإعلاميتها النابهة، نعرّج على الإعلام في كل دول العرب، حتى النفطية منها. فما تزال في الذاكرة صور التلفزيون السعودي عن زيارات ولي العهد قبل عشر سنوات إلى أحياء في العاصمة الرياض كشفت عن فاقة وبؤس لعائلات سعودية كانت الانطباعات عنها لدى الكثيرين تختلف مئة وثمانين درجة.
ولا بد أن نستقر عند إعلامنا الوطني، بامتداداته الرسمية والخاصة، وبعيون كاميراته وحشود إعلامييه لنسأل عن دورهم في الوصول إلى مكامن الفقر، وكشف أبعاده، ووصفه على حقيقته ومتابعته بانتظام، لتكون لهم استراتيجيتهم الوطنية للمساهمة في مكافحة الفقر والبطالة اللذين كان لهما السبق في تحريك الشارع الأردني قبل دول الربيع العربي بأشهر طويلة.
نتطلع أن يأخذ الإعلام الوطني، والرسمي منه بالذات، دوره على نحو منظم ومؤثر ودقيق للكشف عن بؤر الفقر والبطالة، وتتبع هاتين الآفتين. ولديه من البيانات والمعلومات الرسمية خريطة واضحة تساعده على الوصول إلى بؤرهما على مستوى المملكة. فهل نرى تحركاً من إعلامنا الرسمي والخاص ليقدم لنا بكاميراته صورة الفقر والبطالة، بينما نسبهما تتزايد قليلاً بدل انخفاضها باعتراف الجهات الرسمية المختصة؟
لدينا عائلات بالآلاف يتغدون على البطاطا، ويفطرون ويتعشون على الخبز والشاي، ويعيشون في مآوٍ لا تصلح للبشر. أما البطالة، فيبلغ عدد طالبي العمل المسجلين لدى ديوان الخدمة المدنية 234 ألفاً، تزداد سنوياً بمعدل 35 ألفاً. فهل من عيون لكاميراتنا نرى من خلالها آلاف العائلات الأردنية التي غذاؤها الحصري الخبز والشاي، وآلاف العائلات التي لدى كل منها جامعيان أو ثلاثة عاطلون عن العمل منذ سنوات؟ نأمل ذلك.

[email protected]

تعليق واحد

  1. نتاج جوع العقول
    مقال رائع بكل المقاييس ، جزيل الشكر لك دكتور عاكف لهذه الكتابة الراقية ……………عالم الفقر هو إزاحة أو نقلة مادية –روحية تحمل المتفرجين من عالم الحداثة والرفاه نحو كوكب آخر ، أرض جديدة يستوطنها البؤس والحرمان ومرارة العيش متمثلا في هيئات بشرية لكنها تنفصل عن البشرية مسافات متباينة بين الكيلومترات والفرسخ الفلكي ، وللسخرية فالحد الفاصل بين هذين العالمين ليس سنوات ضوئية أو مجرية إنما هو مجرد مئات من الأمتار تفصل عاصمة الأحياء عن كوكب أشباه الأحياء ، لا نتكلم هنا عن مجاعة في الطعام فحسب بل مجاعة في الطعام والدواء واللباس والوقود وحتى الشعور بالوجودية وبريق العيون المرافق للأحياء يتبدل هنا إلى خفوت و شعور بالمرارة لأنك حي و تتجرع يوميا شربة من العلقم وحبات الزقوم بأشكال متفردة متنوعة …………..هذا العالم الكريه الدبق هو صناعة بشرية بإمتياز يتوج فيه قصور البشر وأنانية نفوسهم وجشعهم نيشان العار في سجل الإنسانية وجبين الفضيلة التي يتباهى بها بنو آدم وكانت حكرا على مرتبتهم وهو أيضا برهان هائل الحجم لأكذوبة حقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة وحق الحياة والديموقراطية والمساواة التي يتشدق بها الساسة وزعماء العالم …………خضعت ظاهرة الفقر لشتى أشكال الدراسات والمتابعة على مر العقود وصيغت الخطط التنموية المختلفة محليا وعالميا وتم تشخيص العديد من الأسباب والحلول لتحجيم تلك الظاهرة والحد من تداعياتها على المجتمعات الحديثة ، وليس من السهل الإدعاء بأن قصور وتخلف الحكومات في معالجة الظاهرة هو السبب الرئيس وراء حجم وانتشار جيوب الفقر ، المجتمع بكامله يحمل وزرا في ذلك وحتى على الصعيد الفردي أنا وأنت نتحمل شيئا من المسؤولية الآنسانية والاخلاقية …….. كما يمارس أولئك المحرومون من كل سبل الحياة الكريمة رياضة العذاب والمكابدة اليومية فنحن نتقاطع معهم على الأقل في مستويات أخرى من الفقر ، فقر العـلم والحـرية ، فقر المعرفة والبحث وانطلاق العقول وتحررها من عبادة البشر والخوف منهم ، هذا الفقر المتضافر بين العلم والحرية تم تعويضه في هذه المجتمعات بالمظاهر الكاذبة من غنى البطون والمتعة والشهوات والبذخ الكاذب الفاجر وانغلاق العقول وتقوقعها في المستوى الاستهلاكي التطفلي فحسب ، هذا النوع بالتحديد من الفقر الخفي هو الذي ولد النوع الأول من الفقر الظاهر في كل المجتمعات. وأعطاه لباس الجوع والمرض ومهانة العيش.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock