الفلسطينيون لن يبيعوا..!

منذ زمن بعيد، يدور الحديث عن منح تعويضات مالية للاجئين الفلسطينيين. وقد تصوّر البعض أنها ستُدفع عن كل فرد. مثلاً، إذا كانت بطاقة وكالة الغوث تضم الأب والأم وثلاثة أبناء، فإن العائلة ستأخذ تعويضاً بمقدار خمس حصص. وقال آخرون أنه يغلب أن تُدفع التعويضات لحكومات البلدان التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين من أجل تحسين مجتمعاتهم، المخيمات مثلاً -ووضع البلد المعني ككل.اضافة اعلان
في الفترة الأخيرة، عاد هذا الحديث مع التطورات الجديدة، وبالأرقام أحياناً. وذكر الأكاديمي الأميركي، دانييل بايبس، في عرضه لتسريبات من "صفقة القرن" أن السلطة الفلسطينية ستتلقى حزمة مساعدات ضخمة –"ربما 40 مليار دولار؛ أو حوالي 25.000 دولار عن كل فلسطيني في الضفة الغربية). ويُشاع أن اللاجئين خارج الوطن سيُعوَّضون، وإنما في مقابل تخليهم نهائياً عن حق العودة وتوطينهم حيث هم.
ربما خطر في بال الفلسطيني، في السابق أو الآن أن يتأمل هذا الاحتمال. ربما سأل نفسه: ماذا لو دفعوا لي مبلغا كبيرا من المال يغيِّرُ حياتي في مقابل أن أسلِّم "كرت الوكالة"؟ –الوثيقة الدولية الرسمية الوحيدة التي تثبت أنه لاجئ فلسطيني. وربما يسرف في الخيال، مثل حال الذي يشتري بطاقة يانصيب ويتخيل أنه كسبها ويحسب كيف سينفق نقودها، حتى يجري السحب وتتبخر الأوهام.
البعض ربما استبعدوا هذا الخاطر القبيح بسرعة؛ استعاذوا بالله من الشيطان الرجيم ونفضوا الفكرة من رؤوسهم واشتغلوا بشؤونهم: "هب جنة الخلد اليمن.. لا شيء يعدِلُ الوطن". والبعض الآخر ربما تفاوضوا مع الفكرة، وربما استأنسوا بمحاورة قريب أو صديق: لو أعطوك عشرات الآلاف من الدولارات مقابل التنازل عن حق العودة، هل تقبل؟ وقد يجيب الآخر: ولا بمال الدنيا، حتى التفكير في هذا غير وارد. فيقول الأول: يعني، هل أترك المال ليأخذه واحدٌ غيري؟ طيب، أخذتُ أم لم آخذ، ضاعت فلسطين ولا يبدو أننا سنعود، فلِمَ لا أستفيد من شيء؟ يا أخي، إذا لم آخذ أنا، فكثيرون سيأخذون، وسأكون لا مِن هُنا ولا من هنالك! وسيقول الآخر إن المبدأ هو المبدأ، تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها.
في خلفية مثل هذا الحديث، ثمة اليأس في بعض الأحيان، والفقر في كثير من الأحيان، وإرث النكبة الوطنية الذي يُثقل قلب الفلسطيني كل الأحيان. ولخلط أوراق هذه العوامل، يُحكى الآن عن تجويع الناس المعنيين بالمشكلة لتوجيه الخيارات ببوصلة العوز. وفي الحقيقة، هناك قلة من الفلسطينيين الذين "باعوا" بلا عروض، وبطريقة مختلفة: أولئك الذين أثروا من وراء "العمل في القضية الفلسطينية"، أو الذين أوصلهم هذا العمل إلى مناصب و"امتيازات" في هيكل الوهم. وهناك في المقابل، الكثير من الفلسطينيين الذين حققوا النجاح وكسبوا المال بعرقهم، لكنهم وجدوا أن المال لم يشترِ لهم ما يمتلكه باقي الناس: أن يكون لهم نشيد وطني وعلم، وحياة كريمة حرة في وطنهم التاريخي.
يقول فلسطينيون إنهم سيقبلون التعويض –وإنما ليس عن فلسطين. سوف يقبلون التعويض عن الأضرار الهائلة المتواصلة التي لحقت بهم وما تزال جراء التشرد واللجوء. وسوف يطالبون أيضاً بحق العودة غير قابل للتفاوض والمقدس والأخلاقي تماماً. سوف يقولون أن مليارديرات اليهود، المواطنين أباً عن جدّ في بلدانهم الحقيقية، بذلوا الأموال ليشتروا الضمائر ويدربوا الجيوش ويهجِّروا جماعتهم -ليشتروا لأنفسهم وطناً مسروقاً ويصنعوا شعباً من العَدم. ونحن أصحاب حقٍّ وهم معتدون.
ربما تدور هكذا أفكار في بال الفلسطيني الذي يقاوم منذ عقود كل أنواع الضغوط ويفاوض الأسئلة الوجودية الظنية التي لا بد أن تهاجِم اللاجئ. وفي الحقيقة، لا أعرفُ كيف سيقرر الناس حقاً إذا وضعوهم أمام الخيار الصعب. وأتمنَّى أن لا يُطرَح هذا الاقتراح المُهين، لكنني أحدسُ بأن الفلسطينيين سيردون إذا حاول أحدٌ أن يشتريهم كما ينبغي لشعب مُكافح حُر، وسيقولون ما قالت الفتاة في قصيدة الشاعر الفلسطيني الشهيد راشد حسين.
قالت للذي باع أرضه للصهاينة ليدفع مهرها: "وبعت التراب المقدَّس، يا أنذل العاشقين/ لتدفع مهري، وتبتاع لي ثوب عرس ثمين/ فماذا أقول لطفلك لو قال: هل لي وطن؟/ وماذا أقول له إن تساءل: أنت الثمن؟!/ … أمِن وجع الأرض، تصنع أفراح قلبي الحزين؟/ أعُرْيُ البيادرِ يا نذل، يلبسني الياسمين؟!"