الفِرَق الإسلامية ومذاهبها (1)

غيث هاني القضاة

من المهم أن نُدرك وندرُس التيارات والمذاهب الفكرية الإسلامية التي قامت بصناعة تاريخنا الحضاري وشكلّت قسَماته فهو تراثٌ حضاري غني وعريق وسيُمكننا ذلك بكل تأكيد من فهم التيارات الاسلامية الحديثة وإدراك مدارسها وصراعاتها وجذورها الممتدة في التاريخ ، ويبدو لي أن الحديث عن هذه التيارات الفكرية وكأنه أحيانا حديثٌ عن واقعنا الفكري المعاصر وتشعُباته وتعقيداته ، ولعله هنا من أحد السُبل لاستشراف المستقبل وصراعاته ومآلاته لتصحيح مسارنا وترشيد مسيرتنا ، غير أن المُلفت للنظر أن بعض التيارات الإسلامية كان قيداً على فكرِ وتطور الأمة ونهضتها تلك التي لم تترك غريبا في الاعتقاد والتشدد إلا ودَعَت اليه ، بينما بعضها الآخر كان مُعبّرا عن آمال الأمّة في القوة والتقدم والنهضة.اضافة اعلان
قبل نشأة فرقة الخوارج العام 37 للهجرة ، لم يزعم أي أحد من أطراف الصراع السياسي على الخلافة الاسلامية أن خصمه قد مرَقَ عن الإسلام أو أن رأيه السياسي هو رأيُ الدين ! وكان انشقاق الخوارج على الخليفة الرابع علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه نقطةَ تحوُل مركزية في طبيعتها وكيفيتها، فهم قاموا بإضفاء صبغة دينية على خلافاتهم السياسية –كما يفعل البعض اليوم- عندما زعموا أنهم المؤمنون وأن غيرهم قد مرَق من الدين فمن حاد عن رأيهم كفّروه واغتالوه بالسيوف!وهنا تحديداً أصبحت الأمور أكثر تعقيدا عندما بدأ خصومهم يستخدمون معهم نفس السلاح فأصبحت معظم الفرق الاسلامية تجعل لخلافها السياسي وآرائها الفكرية صِبغة من الدين !ومما زاد الطين بِلّة وعقّد الموضوع أن النشأة الأولى للخوارج كانت على يد مجموعة من حَفَظَة القرآن من التابعين الزاهدين والذين على ما يبدو أن حفظَهم له لم يؤهلهم الى علمٍ يبلغون به ما وراء الآيات !وكانت تغلبُ عليهم بداوة الأعراب وغِلظتها يعلوه تعصبٌ شديد لرأيهم وضيق عجيب في أفقهم الفكري.
لم يعتقد الخوارج للحظة واحدة أنهم على خطأ !فهم قد ثاروا بالسيوف على البُغاة من المسلمين امتثالا لفهمهم وتفسيرهم المُتفرد لأمر الله (وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا) مُصنفين أنفسهم الفئة المُحقّة، ثم رفضوا ما قَبِلَ به علياً رضي الله عنه من شروط التحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فصاحوا بصيحتهم المشهورة ( لا حُكمَ الا لله ) وكانوا بذلك أول من استخدم لفظة (الحاكمية ) استخداماً وتطبيقاً خاطئاً، وهي العبارة التي علّق عليها عليّا بقوله ( إنها كلمة حق أريد بها باطل) ! ثم إنشقوا عن علي وقالوا له بأننا لن نُطيعَ أمرك ولن نٌصليَ خلفك ،فنقلوا خلافهم السياسي ليُصبح خلافاً دينيا أصيلا معه ، وانشقوا كذلك عن معاوية، وظهر هذا الفريق الجديد (الجماعة المؤمنة كما سمّوا أنفسهم) واختاروا لهم أميراً صحابياً من قبيلة الأزد وليس من قبيلة قريش –حيث كان أكثرهم ينتمون الى القبائل الربعية التي نشأت بينها وبين القبائل المُضرية في الجاهلية عداوات وخصومات- وكانت لحظة نشوء أول فرقة في حياة المسلمين على أساس سياسي تلبسُ عباءة الدين .
أصلّ الخوارج لإسمهم -الذي أعجبهم -بعد أن أطلقه عليهم خصومهم، فكانوا يقولون: إن الخروج عن الدين مُروق ويسمى أصحابه بالمارقة، أما الخروج الى الدين فإن أصحابه يُسمون بالخوارج وذلك لأن خروجهم في سبيل الله وإلى الدين وليس عن الدين! وإجتمع الخوارج كذلك على أصولٍ تتعلق بنظام الحكم كان أهمها شروط الإمامة حيث لم يشترطوا النسبَ الى قريش فيها أو أن يكون الخليفة عربياً، بل يجب أن يكون منتخباً من قبل الناس، مما قد يراه البعض من الأفكار السياسية الإيجابية لهم، إلا أنه كان ملائما لهم كاسلوب رفض مُبطن لتحديد الخلافة في قريش وقتها!
وأصلّوا شرعياً كذلك الى وجوب الثورة على أئمة الفسق والضعف وجعلوا لذلك حدّا عدديا من الرجال لوجوب الثورة ومشروعيتها ؛أي أربعين رجلا للاتفاق على الثورة داخل الدولة ! وكانوا يُسمونه (حدّ الشراء ) أي الذين اشتروا الجنة! وكذلك أصلّوا لتكفير علي بن طالب بعد أن قَبِل بالتحكيم على خلاف فيما بينهم هل هو ( كُفر شرك ) أم (كُفر نعمة) ! فلقد توهّموا أنهم الإسلام وأن الإسلام هُم وما عادوا أتباعا لهذا الدين بل رأوا أنفسهم الدين ذاته!ولم يعد يُعجبهم كبار الصحابة نتيجة فهمهم المغلوط والمنقوص للدين، فحتى لو كان خلافهم مع صحابي كان من طليعة من أسلمْ ومن طليعة المُبشرين بالجنّة وصهر رسول الله عليه الصلاة والسلام ! فالأمر سيّان عندهم .
حكمَ الخوارج على من يموتون من المسلمين وهم من المُرتكبين لكبائر الذنوب ودون أن يتوبوا منها بالكفر والخلود في النار حتى وإن نطقوا بالشهادتين! وجعلوا هذا أصلا في قتالهم ضد حُكام بني أمية، فكفّروا الدولة وكفّروا سائر مخالفيهم، وقادوا العشرات من المعارك التي أنهكت الدولة الاموية واستنزفت قواها، حتى جاء العباسيون فقطفوا ثمار حروب الخوارج ! وقد أجمعوا على تنزيه الذات الالهية، وقالوا كذلك بخلق القرآن خروجا من مأزق تعدد القديم ،ثم تفرّقت الخوارج الى عشرات الفرق والتي بدأت بالأزارقة وهم بالمناسبة أول من حَكَمَ بأن ديار مخالفيهم هي ديار كُفر! وانتهت الى أكثر من سبع وعشرين فرقة بحسب مؤرخ الفِرق الاسلامية(المقريزي)، مرورا بالإباضية والتي هي من أقل جماعات الخوارج غُلوا حينها وأكثرهم قُربا من فكر أهل السنة وأكثرهم إتزانا و إعتدالا؛ حيث أن مرتكب الكبيرة عندهم هو كافر (كفر نعمة) وليس ( كفر شرك)، بل يُنكر بعض الاباضية اليوم صلتهم بالخوارج أصلا، وقد إنقرضت جميع فرق الخوارج باستثناء الإباضية الذين ما زالوا في بعض الدول العربية وهم يتحدثون بكل صراحة وينكرون أية صلةٍ لهم بالخوارج المتشددين واقتربوا كثيرا من مذاهب أهل السنة في العديد من أصولهم ولا يمارسون التطرف الفكري والسلوكي الذي كان يمارسه الخوارج الأوائل.
والسؤال المهم: هل إنقرض فكرُ الخوارج؟ وهل إنقرض اولئك الذين يعتبرون الخطأ السياسي كُفرا؟ أو أولئك الذين يلبِسون فعلهم ورأيهم السياسي لبوسا دينيا يُكفّرون به من خالفهم! أو يفهمون النصوص كما يشاؤون ويجعلون الناس في كفّة وفكرهم واعتقادهم في كفّة أخرى!هؤلاء الذين يجعلون كلّ معصيةٍ شركاً ويجعلون كلّ صغيرة كبيرة بل ويوزعون الناس تباعا بين الجنة والنار !يبدو أن الزمان قد تغيّر وأن الاسماء والمُسميات قد إختلفت وعاد إلينا خوارج العصر بثوبٍ جديد وبأسلحةٍ جديدة ينفثون سمومهم الفكرية عبر وسائل التواصل المختلفة ويتمتعون بإنحراف فكري كما تمتع به القُراء الاوائل منهم، ويختمون حديثهم ويُفسرون شذوذهم الفكري دائما بقولهم ( إن الحكم إلا لله) جاعلين من أنفسهم مرجعية وحيدة للفهم والتأويل مُنشغلين بأمر السماء وأحكامه!