القاموس الشعبي البذيء!

يتحدث تقرير نُشر عبر صحيفة "العربي الجديد" بعنوان "مفردات بذيئة تهيمن على المجتمع الجزائري"، عن انتشار ظاهرة "استخدام المفردات البذيئة" في المجتمع الجزائري، على مسمع من مختلف الشرائح، ما أصبح يمثّل ظاهرة مزعجة، تعكّر صفو العائلات في الأماكن العامة وفي الشارع، أو في الأسواق والمتنزهات.اضافة اعلان
يذكر التقرير قصصاً عن المشكلات والمشاجرات التي تتسبب بها هذه الظاهرة. وهي مواقف محرجة بالفعل للأهالي؛ فإمّا أن تضطر إلى لجم من يستخدمون هذه المفردات بصوت مرتفع، ما قد يؤدي إلى تطوّر الخلاف إلى شجار، أو أن يضطر ربّ الأسرة والآخرون إلى الصمت، تجنّباً للمشكلات مع نوعية "غير سويّة" من الشباب أو الموجودين.
بالطبع، ظاهرة "المفردات البذيئة" أو "النابية" (وفق المصطلح الدارج لها)، تتجاوز الحالة الجزائرية، اليوم، إلى العديد من المجتمعات العربية، ويلاحظ انتشارها فعلاً في الآونة الأخيرة في المنطقة. ومن كان يتابع فيديوهات الحروب والصراعات الداخلية في سورية، سيُصدم لحجم "البذاءة" المستخدمة فيها، بخاصة من قبل أفراد جيش الأسد والمليشيات التابعة له، أو حتى بعض الفيديوهات الآتية من العراق، فكأنّ القتل والتنكيل والتعذيب لا تكفي وحدها، فيضاف إليها "قاموس" من الشتائم البذيئة المهينة من قبل المعذِّبين إمعاناً في الإذلال والإهانة للضحايا!
في الأردن، يمكن رصد الظاهرة نفسها، وما تعكسه من تحولات اجتماعية متعلّقة بها. إذ أصبح ممكناً جداً وأنت في مكانٍ ما أن تضطر إلى سماع شتائم نابية ومخلة بالأدب، بصوت مرتفع، في الشارع أو في أماكن عامة، في بعض الأحيان. لكن هذه الظاهرة ما تزال مرفوضة ومنبوذة بشدة في الثقافة الاجتماعية عموماً.
سيقول قائل إنّ هذه المفردات والكلمات والثقافة ليست جديدة، بل هي "أصيلة". حتى في كتب التراث والأدب العربي هناك استخدام للمصطلحات والمفاهيم والكلمات الجنسية. لكن هذا الرأي غير صحيح ولا دقيق البتة، فالمستخدم في الأدب العربي هو أدب مختلف تماماً!
نعم، أدب يتعامل مع الثقافة الجنسية، وهناك كتب فيها نكات، وهنالك فقه يتعامل مع هذه الموضوعات، لكن ليس هذا ما نتحدث عنه لا من قريب ولا من بعيد. ما نقصده هنا تحديداً "ثقافة الشتائم البذيئة"، وانتشارها في الآونة الأخيرة، وما تحمله من دلالات ومعانٍ مرتبطة بثقافة المجتمع!
انتشار هذه الشتائم وتزاوجها مع الحروب الأهلية في العالم العربي والإحباط لدى جيل الشباب وشعور شريحة اجتماعية واسعة بالإحباط واللامبالاة، هو مؤشر على تفكك "السلطة الأخلاقية" والقيمية التي تحكم المجتمع وترسم علاقة الناس ببعضهم، مثل تراجع مفاهيم الاحترام والتوقير واستسهال إهانة الآخرين. كما تنمّ عن احتقانات كامنة ضد المجتمع وثقافته العامة.
اللغة ليست أداة مجردة للتعبير والاتصال، بل هي مرآة عاكسة لحالة المجتمع وثقافته وأخلاقة ومستواه النفسي والروحي، ومقياس مهم وأساسي لمستوى رقي المجتمع وانحطاطه أو تقدمه وتراجعه. لذلك، كلما حاربنا انتشار مثل هذه الظواهر أدبياً وسلوكياً في المجتمع، وعزّزنا الشعور باحتقارها ورفضها، وارتقينا بلغة الناس في الشارع وأسلوب تعاملهم مع بعضهم، كان ذلك علامة من علامات المقاومة والإصرار على التماسك الاجتماعي عبر حماية المظلة الأخلاقية وتعزيز سلطتها وشرعيتها على الجميع.
هذا وذاك يقودنا إلى الحديث عن المناهج؛ فضروري تماماً اليوم التفكير في إدماج الأدب والأخلاق في كتب اللغة العربية للصفوف المختلفة، والارتقاء بذائقة الطلبة للوصول بهم إلى مستوى يرفض تماماً هذه الظاهرة وينبذها، لا أن يتطبع معها ويعتبرها أمراً مقبولاً وسائغاً.