الكاتب و"ما يطلبه الجمهور"!

لا يحترم القراء كاتباً ينشغل الآن بالكتابة عن شروط وفنيّات القصة القصيرة؛ في الوقت الذي تنفتحُ (الروايةُ) الشعبيةُ على كل هذا الدم!
 ولا يحترم القراء المثقفَ الذي يدفنُ رأسه بين الكتب في الوقت الذي يدفن أهل بلده شهداءهم وأطفالهم عصر كل يوم ويعودون لاعتصامهم السلمي!اضافة اعلان
 لكنَّهُ، وفي الحديث عن الكاتب علينا أن نتحدث عن الجرأة والخوف، كمعدّات رئيسة لهذه "المهنة"!
وعلينا ان نعرف لماذا يهرب الكاتب أحياناً من إعلان موقفه مما يجري، و"يغيّر مجرى الحديث". ولماذا يتجنب مواجهة الشارع بموقفه، ويختار أسلم الحلول وأربحها، بانتظار انجلاء الغبار ليقف مع "المنتصر".
رغم ان الاحتيال على الحقيقة وتزويق صورة القاتل وامتداح الجريمة هي خدع قصيرة العمر؛ لا تنفع لتزويق صورة الكاتب نفسه إذا انمزعت، ولن تنطلي على الناس.
لماذا يخاف الكاتب؟
 يخاف الكاتب أحياناً من السلطة، ويخاف أحياناً من الشارع، والخوف من الشارع صار شائعاً أكثر الآن، حيث اشتدت قبضة الشارع وتغوّلت سلطته، ويخاف الكاتب من شروط المجتمع ونواهيه، ويخاف من شيخ الجامع، ومن الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، ومخرجي البرامج، وحتى من طلاب الجامعات.
وهنا ينقسم نوع الكاتب: الكاتب الخائف والكاتب البطل. الأول هو الذي لا يجرؤ على مواجهة السائد، ولا يتصدى للفكرة العادية والعامّية، وينساق خلفها، ويصفق لها، ويسخّر كتابته لترويجها. دون ان يحدّق في كمية المنطق فيها، دون ان يُقلّبها في كفّيه، ودون أن يخضعها للعقل.
وهذا الكاتب تفزعه، بل ترعبه فكرة مخالفة الجمهور، والسير بعكس اتجاهه، ولو مرّةً واحدة. بل هو يبحث بمثابرة عن كل ما يثير غريزة الشارع، ويضعه موضع التصفيق الشعبي دائماً! وهذا كاتب لا يليق به دور الكاتب؛ الذي وظيفته بالأساس قيادة الرأي العام وليس الانقياد له؛ والتفكير للشارع بمنطق علمي لا عاطفي أو شعبوي.
وهنا يدفع للاستغراب ان يقول كاتب معروف يختتم سيرته الصحفية في نهاية مقاله الأخير أنه لم يخالف الشارع مرة واحدة في حياته؛ وأستغرِب من تعامله مع ذلك كوسام أو ميزة يفتخر بها، وانه لم يقدم لهذا الشارع ولو مرة فكرة مخالفة، صادمة، قاسية، مناقضة، وبقي يطبطب عليه كطفل مدلَّل!
فما الذي يقدمه كاتب أو مثقف للشارع حين يكرر نفس خطابه؟!
وماذا يجدي للناس ان يخرج عليهم كاتب أو محلل على الشاشات يصرخ ويهتف مثل أي فتى في مظاهرة؟ لا أقصد حتماً مخالفة الشارع لأجل الاختلاف فحسب، او لأجل ادعاء الحكمة والثقافة؛ ولكن المطلوب من الكاتب أن يقدم للشارع/للجمهور/ للقارئ تحليلاً يصدر عن رجل هادئ يختلف في تفكيره عن رجل في مظاهرة، وحتى لو كان يتفق مع الشارع فعليه أن يعيد خطابه بشكل علمي وممنهج وتحليلي وليس بذات النبرة العاطفية!
أما الكاتب الثاني فهو الكاتب البطل المستعد دائماً للمغامرة، والذي لا يجنح للفكرة المسالمة، ويحمل رأياً نقدياً، ولا يتورع عن كتابةٍ انتحارية حتى لو خالفت عموم الشارع. يحتكم لعقله ويجازف بتقديم رأيٍ لا يغري بالتصفيق!
يحمل للناس الفكرة بدون جماهيريتها، ودون إغراءاتها الشعبية، ولا يراهن على إعجاب القراء السريع بل على التغيير التراكمي في تفكيرهم. أمَّا الكاتب الذي يرضي كلَّ الناس في كلِّ ما يكتب فعليه حتماً ان يتحسس رأسه!

[email protected]