الكبار لا يغيبون

لم أعتد أن أكتب عن شأن شخصي؛ إذ إن هذه المساحات ليست شخصية، لكنك في حالات محددة، تكتب عن شأن على صلة بك شخصيا، لكن عبر زاوية عامة لا تغيب.اضافة اعلان
حين رحل الكبير مصطفى القيسي، عضو مجلس الأعيان الأسبق، والوزير أيضا، ومدير المخابرات الأسبق، الذي جاء في مرحلة حساسة جدا، بعد 1989 واستطاع صياغة التحول الديمقراطي بما يعنيه ذلك من إعادة جوازات آلاف الأشخاص التي كانت محجوزة في المرحلة العرفية، أو رفع موانع العمل والسفر، والانفتاح على جماعات حزبية وسياسية في الأردن وترخيصها وتحويلها الى مكون شرعي، شعرت بتأثر بالغ؛ إذ إن علاقتي به وبأفراد أسرته، لم تكن علاقة رسمية، بل عائلية وشخصية، بدأت وتكرست وهو خارج السلطة.
في عزاء الرجل آلاف مؤلفة، من كل الأردن، الأصول والمنابت، الموالاة والمعارضة، والذي رأى مشهد الناس إذ يهرعون للتعزية برجل رحل للتو، يعرفون أن هذا المشهد ليس مألوفا في الأردن، الذي يختلف فيه الناس بحق كل مسؤول سابق، بل إننا من أكثر الشعوب العربية التي تقدح مسؤوليها وهم في السلطة وخارجها، لكن الرجل وهو في دار حق، ولم يكن لأحد مصلحة معه، حشد كل هذه الأعداد، في زمن انفض فيه الناس، أصلا عن كل مسؤول حالي وسابق، وعن الموجودين والراحلين، وهذه حالة لافتة للانتباه حقا.
تاريخ الأردن شهد صناعة رموز، سياسية وعسكرية، من وصفي التل الموسوم بنظافة اليد الذي تم غدره في القاهرة، الى هزاع المجالي الذي تم غدره أيضا في دارة رئاسة الوزراء، ثم عدد محدود جدا من العسكريين الذين يشار إليهم بالبنان،ولكل شخص من هؤلاء سبب في ترميزه وصناعة سمعته، إما نظيف اليد، أو كان شجاعا، أو ضحى بروحه، أو حارب لله ثم لأجل الأردن أو فلسطين، ونلاحظ في حالات كثيرة، أن صناعة الرموز تخضع لمعايير شعبية صعبة، ومحاولات آخرين تصنيع رموز لا تستحق مكانتها، تجابه بعدم القبول والفشل، لأن الناس لا ينطلي عليهم أي محاولة لتسويق أي شخص، فهم يميزون جيدا بين معادن الناس.
مصطفى القيسي الذي كنت ألتقيه دوما حين أزور أنجاله الكرام، في بيته، كان من طراز نادر، فهو من مدرسة تحترم موقعها السياسي والعسكري، ولا تتفوه بكلمة سوء على البلد، ولا تفشي سرا، ولا توحي لك بحرف أن الدنيا خربت بعده، بل إنه كان دائما يتسم بالعقلانية؛ إذ يحلل لك أي وضع قائم، مستمدا من طريقته ذاتها التي أدار فيها مواقعه حين آمن بالحوار والعقلانية والهدوء والأخذ والعطاء مع كل الناس، وكان حاضرا بكل شخصيته، وخبرته، وحسن أخلاقه، وطيبته وتواضعه مع جيرانه وأهله ومعارفه وكل من يعرف، وقد كان في موقعه الأهم صانع سياسات، بما تعنيه الكلمة سياسيا وفنيا.
مناسبة هذا الكلام، أنني منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما لم أر مثل مشهد تكريم هذا الرجل في رحيله، فالأردن اليوم منقسم حول شخصياته ومسؤوليه، وهذا من جيل نادر التكرار من مسؤولي الدولة الذين استطاعوا، رغم مواقعهم الحساسة السابقة، أن يحافظوا على علاقات اجتماعية طيبة مع آلاف مؤلفة من الناس، من دون خشية من أحد، فلا فساد عليهم، ولا أحقاد، ولا فوقية أو تعال، وهذا نمط مده بتربيته على أبناء أسرته.
القصة لا تقترب هنا من حدود المجاملات أو الحسابات الشخصية، لكنها كانت تقول إن من يحافظ على احترامه في الأردن، يرد الناس له الاحترام بالمثل، حتى بعد ابتعاده عن المسؤولية، وعدم وجود مصالح مباشرة معه، فقد قدموا بكل هذه الأعداد للتعزية فيه، وليس لتعزيته هو، وعلى كثيرين أن يشعروا حقا بالغيرة من رجل حشد في رحيله، أكثر من قدرتهم على التحشيد في حياتهم، وهذه وحدها ليست سهلة.
لقد آن الأوان أن تكون لنا ذاكرة وطنية، وحتى نكون منصفين، فهناك محاولات محدودة للتوثيق المكتوب والتلفزيوني، لكن أغلب الرموز السياسية والعسكرية، التي بقيت محفورة في ذاكرة الناس، تغيب عن الذاكرة الوطنية، سواء في المناهج، أو الإعلام، أو بقية الأنماط، وللأسف هناك محاولات لإحلال أسماء ليست ذات قيمة، وتقديمها باعتبارها رمزية على الرغم من أنها لم تقدم شيئا لهذا البلد، فيما الجيل الذي قدم، فضل أن يرحل بصمت، أو أن يجلس في بيته مراقبا المشهد، مكتفيا بالسكوت، تاركا كل المشهد لأنصاف الرجال.