الكتابة، كمهنة..!

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية مؤخراً مقالاً يُناقش مشكلات تتعلق بالكتابة في أميركا. عنوان المقال “لماذا النشر أبيض جداً”؟ وهو يرصد مسألة تتعلق بُعنصرية النّشر في الأساس، حيث يتردد الناشرون في نشر أعمال الكُتاب السود والملونين – ويدفعون لهم مكافآت عن كُتبهم أقل بكثير من نظرائهم البيض.اضافة اعلان
يستشهد المقال بقضية كاتب أسود اسمه، نانا كوامي أدجيه-برينياه، عمره 27، والذي أبلغته دار نشر بعد تأخير بأنها ستنشر روايته. لكن الكاتب “شك في أن الشروط المالية للعقد الذي وقعه -سُلفة بقيمة 10.000 دولار عن كتابه، و40.000 دولار عن كتاب ثانٍ غير مكتمل- لم تكُن مثالية. لكن والده كان مصابًا بالسرطان ووفر له المال في البداية قدراً من الأمان”.
لذلك نشر برينياه قضيته على وسائل التواصل الاجتماعي، وطرح مسألة التفاوت في مكافآت الكُتاب على أساس التفاوت العرقي. وكما يقول المقال، “كشف بعض المؤلفين البيض أنهم حصلوا على مئات الآلاف من الدولارات مقابل كتبهم الأولى”. وكتبت إحداهم، جيسمين وارد، في تغريدة، عن كيف “قاتلتُ وقاتلتُ” للحصول على 100.000 دولار مقدمًا، كما تقول، حتى بعد فوز إحدى رواياتها بجائزة الكتاب الوطني.
تثير القضية التي يناقشها المقال جُملة من القضايا المتعلقة بالكتابة في منطقتنا. ويتعرض الكُتّاب هنا للكثير من النقد، سواء من حيث كمّ الإنتاج أو نوعه. وبالإجمال، يُقدّر أن الإنتاج الأدبي العربي –والإنتاج المعرفي كله- غير منافس، وضحل، ومُجامِل، ومُكرّر –من بين عيوب أخرى. ولا بُدّ أن تكون لهذا –إذا كان صحيحاً- أسباب يمكن تعقبها.
أولاً، يندُر كثيراً أن يكسب روائي أو شاعر أربعين ألف دينار أو مائة ألف دولار –كدفعة مقدماً- عن كتاب. وليس لدينا الكثيرون ممن يكسبون مئات الآلاف من الدولارات من كتبهم. وباستثناء قلّة ربما لا تتجاوز العشرات في أحسن تقدير، يكسب الكاتب العربي بضعة آلاف في أحسن الأحوال، وربما يعطيه الناشر فقط عدداً من النسخ ليبيعها بنفسه، بعد أن يدفع هو كلفة الطباعة. وإذا تفرّغ الكاتب سنة، مثلاً، لكتابة رواية أو كتاب بحثي أو فكري، فإن ما يكسبه منها يغلب أن يكون أقل من دخلِ أي عمل منتظم يزاوله خلال السنة نفسها. لذلك الكُتاب الذين نعرفهم في الأساس موظفون: عاملون بدوام كامل، في مصرف أو مدرسة أو جامعة أو شركة أو صحيفة أو دائرة حكومية… وهكذا.
إذا كانت الكتابة ليست مهنة أساسية بدوام كامل ويُعتمد عليها لوضع الخبز على الطاولة، فإنها ستفتقر إلى شروط الحرفة: تجويد المنتج الذي تصنعه الممارسة، والتركيز، والتمرين ومتابعة تطور الأدوات والتقنيات. لن يجد الذي يعمل ثماني ساعات في الوظيفة الأساسية ومثلها في النوم وقسم آخر للاجتماعيات والشؤون وقتاً ليقرأ، ويتفاعل، ويُجرّب ويُحرّر. وسوف تكون هناك عشرات الأشياء التي تُخرجه من الحالة والمزاج كل لحظة وكل يوم. وبعد ذلك، يُطلب منه أن ينجز مثل كاتب غربي يعكف على كتابه في إجازة في الريف أو يُداوم عليه في مكتبه بدوام كامل.
وفق قانون العرض والطلب أيضاً، ثمة علاقة جدلية بين الكتاب –كسلعة- وبين استهلاكه. من ناحية، الناس لا يقرأون لمختلف الشروط، ولذلك تؤدي قلة الطلب إلى قلة في العرض، وانخفاض في السعر، وعدم العناية بالنوعية للمنافسة. لن يعمل الكاتب غير المتفرغ/ غير المحترف على تجويد منتجه الذي لن يُباع ولن يجلب له دخلاً كافياً للتفرغ. ومن ناحية أخرى، لن يشتري المستهلك كتاباً “غير متعوب عليه” وسوف يزداد نفوره من استهلاك الكتب. وسوف يضمن كل شيء أن يكون الكاتب “هاوياً” وأن تكون الكتابة عملاً غير مجز مادياً وغير مرضٍ، حتى لصاحبه نفسه، فكرياً وأخلاقياً ونفسياً.
وهناك أيضاً مسألة “المجاملة” المرتبطة قطعاً بحرية التعبير. المحتوى المجامِل سيجد من يروجه ويدفع ثمنه. وحتى يُباع الكتاب، ويجلب بضعة آلاف من الدولارات للناشر والكاتب، فيجب أن يمرّ من الرقابة في الدول العربية. ولكي يفعل، ينبغي أن يتجنب أكواما من المحرمات في السياسة والدين والجنس –أي كل شيء مهم وله معنى.
سوف تتطور الأدبيات فقط في سياق متطور قابل بالتغيير. وسوف يتطور السياق ويتغيّر إذا كانت الأدبيات حُرة، محترفة، وعاكفة على الاستكشاف والاقتراح وإضاءة الطريق. وفي هذه الدائرة المغلقة، ينبغي الشك في وجاهة مساءلة الكاتب المُحاصر من كل الجهات.