الكتاب والحكمة

Untitled-1
Untitled-1

د. هاشم غرايبة

لفظة الكتاب مشتقة من (كَتَبَ)، وتعني الشيء المكتوب على ورق أو نحوه، وهي تسمية أخرى للقرآن الكريم، والفارق لغوي فقط فالقرآن لفظة دالة على كلام الله الذي أنزله على نبيه الكريم، ومشتقة من قرأ، والقراءة قد تكون من شيء مدون أو مما يحفظه المرء غيبا، وفي زمن التنزيل كانت القراءة والكتابة مقتصرة على نسبة قليلة من الناس، لذلك استعمال لفظة القرآن أوسع، كما أن الكتاب عام يشمل كل ما أنزله الله من كتب سماوية، لكن القرآن مخصوص بالكتاب الأخير الذي أنزله على الرسول الخاتم لكل الرسالات محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن كل أسس العقيدة التي جاءت في الكتب السابقة، وتشريعات الدين المكتمل، لذلك فهو مهيمن على الكتب السابقة جميعا لأن تلك الكتب احتوت على جزئيات محددة من الدين، قدرها الله مناسبة لذلك العصر ومستوى تقدم البشر الفكري، وتشريعات موقوتة بأقوام محددين الى حين نزول التشريع النهائي، لتصبح تشريعات القرآن وأحكامه للناس جميعا والى نهاية الزمن، بمعنى أنه المرجع لأي اختلاف بين أتباع الرسالات المختلفة " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" [المائدة:14]، ويعني ذلك أن ما وافقه مما هو بين أيدينا من الكتب السابقة صحيح، وما تعارض معه منها محرّف، وما زاد عنه موضوع، وذلك من باب وجوب عدم التعارض فيما أنزله الله، حيث أن القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد من بينها الثابت بقاؤه كما نزل.اضافة اعلان
أما لفظة (المصحف) فهي الجسم المادي للقرآن، فقد رأى بعض الصحابة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، أن يجمعوا المدون من القرآن الكريم في كتاب واحد، حيث أنه كان مدونا على رقاع مختلفة، بحسب ما كان متوفرا من مواد لكُتّاب الوحي فتولى المهمة زيد بن ثابت، واتفقوا على تسميته بالمصحف نسبة إلى الصحائف التي كان يتألف منها، وكان مكتوبا بالخط الحجازي القديم، بلا تنقيط ولا تشكيل.
وفي عهد عثمان رضي الله عنه، تم تدوين خمس نسخ من المصحف بالرسم العثماني مع التنقيط والتشكيل والتبويب، تماما كما هو بين أيدينا الآن، وتم توزيع هذه النسخ في أرجاء الدولة الإسلامية وعنها نسخت كل النسخ فيما بعد، وظلت بالصورة ذاتها الى اليوم.
أما الحكمة لغة فتعني العدل والعلم والحلم، وأحكم الشيء أتقنه فاستحكم، ومنعه من الفساد، واصطلاحا هي وضع الأمور حيث ينبغي، في الوقت الأمثل لذلك.
وردت هذه اللفظة في كثير من الآيات القرآنية مترافقة مع الكتاب، لدرجة عدها الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" أنها تعني السنة النبوية.
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي الحكمة، بدلالة قوله تعالى: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" [البقرة:269]، فمكّنه الله منها لكي يعلمها للناس الى جانب تعليمهم كتاب الله الذي يوحى إليه به " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [الجمعه:2].
ترتيب مجيء لفظة الكتاب هنا قبل الحكمة هو ترتيب رتبي وليس زمنيا، لأن الحكمة هي أساسية وسابقة للموحى إليه من كتاب الله، فهي التي مكنته من فهم كلام الله ومراده، فلم يَرِدْ أنه صلى الله عليه وسلم قد سأل جبريل عليه السلام عن معنى آية أو تفسير المراد بها، بل كانت تنطبع في ذاكرته فور نزولها لفظا ومعنى، لذلك فالسُّنة منتج للحكمة وليست هي بذاتها، بدليل أنها كانت تعطى من الله للأنبياء على العموم مترافقة مع كتبه "إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ " [آل عمران:81]، وخصص بذكر بعضهم بذلك " فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" [النساء:54] ، كما أنه تعالى يمكن أن يؤتي الحكمة لغير الأنبياء وبلا ترافق مع كتاب " وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ " [لقمان:12].
نستنتج إذن أن الحكمة ليست السنة، فالسنة حالة فريدة اختصت بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ولم تعط لنبي قبله، وذلك لأن القرآن اشتمل على أسس العقيدة وأركان الدين وتشريعاته جاءت مجملة، ولو أرادها الله مفصلة، لاحتاجت الى أضعاف كثيرة من الآيات ولأصبح حجم القرآن بصورة يصعب حفظه أو حتى الإلمام بها.
لذلك كان لا بد من السُّنة، فهي مفسرةٌ لمرادات التشريع ومفصلة للمجمل من الأحكام ومخصِّصةٌ لما جاء معمما منها، وتطبيقا عمليا لها تعليميا للصحابة، وتدريبيا لهم لاستعمالها في كافة مناحي الحياة من بعده.
كما أنها ليست وحيا آخر، فالحكمة والسنة كانت أداءً دائما طوال زمن البعثة، فيما كان الوحي ينزل في أوقات معينة، لغرضين: التنزيل بقرآن كان يلقى في روع النبي لفظا محددا، والثاني إعلام لرسول الله بغيب في أمور محددة شاء الله أن يطلعه عليها عن طريق جبريل عليه السلام، في حالات يقدرها الله تعالى في سابق معرفته، مثل إنبائه صلى الله عليه وسلم بحديث جرى بين بعض زوجاته: " قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ" [التحريم:3].
هكذا نفهم تلازم الحكمة مع الكتاب، فالكتاب مصدر العلم، والحكمة تمثل فهمه واستيعابه، ومن نتاجها كانت السُّنة.