
رشا كناكرية
عمان- لعل كثيرا من الأشخاص شعروا يوما ما بجرح قاس من كلمة وقعت على مسامعهم أو وجهت إليهم، رغم مرور الوقت عليها والتظاهر بالنسيان واللامبالاة، غير أنها تركت ندوبا عميقة داخل الروح.
هذه الكلمات الثقيلة والقاسية قد ينتهي وقعها سريعاً، ولكن يبقى الإنسان يتألم منها، لأن هذه الكلمة أو تلك سقطت كالرصاص على متلقيها. قد لا ينتهي وجعها هنا بل على المدى البعيد تتسبب بأمراض صحية ونفسية وبألم حقيقي في جسد الإنسان.
كثيرون لا يدركون ماذا تفعل هذه الكلمات بمتلقيها وكيف تقوده إلى طريق صعب، وربما تؤثر على مسار حياته بأكملها.
“لا أعلم لماذا يتفوه الأشخاص بالكلمات الجارحة وماذا يستفيدون من قولها”، هكذا عبرت آلاء عن غضبها، وتقول: “كثيرا ما سمعت كلمات مؤذية مثل “لست ذكية ولن تنجحي بأي عمل ولن تصلي لشيء..”، وللأسف من أقرب الناس وهم أفراد عائلتي”، وفق قولها.
هذه الكلمات زرعت الخوف من الفشل في داخل آلاء، وجعلتها تشعر بخيبة أمل كبيرة، ووصفت ألمها “لا يعلم أحد كم تأثرت بهذه الكلمات وكم أوجعتني، هي كلمات بسيطة بالنسبة لهم خرجت ونسوها.. ولكنها ما تزال محفورة داخلي خاصة أنني سمعتها لسنوات”.
ومن جهة أخرى، تلقت آلاء مساندة معنوية من صديقاتها، لتخطي صدى تلك الكلمات الجارحة، فلم يكن منهن سوى تشجيعها وتوجيهها للتفكير الإيجابي، إذ زادت ثقتها وإيمانها بنفسها، لكنها لا تنكر أن الألم ما يزال ساكنا بداخلها، ولكنها وضعت حدًا حتى لا تسمح له بأن يتمكن منها.
اختصاصي علم النفس الدكتور أسامة صيام، يبين أن الكلمات الجارحة سميت جارحة، لأنها تسبب جروحا حقيقية في الدماغ وتميت خلايا عدة أو تتلف عملها، مسببة نوعا من العطل في التفكير، ولهذا يعاني الشخص المجروح آلاما نفسية وشعورا سلبيا وإحباطا، ليس هذا فقط، بل كثيرا ما يتحول الشخص المجروح إلى شخص فاشل غير منتج.
ويوضح صيام أنه إضافة إلى ما يتمتع به الإنسان من القوى، مثل القوة الصحية والنفسية والجسدية، هناك قوة لا يستهان بها.. وهي قوة الكلمة، مبينا أن “الكلمة” قد تترك أثرا لا ينسى في أعماق الشخص، وقد تمر أشهر وأعوام وهو لا يستطيع التخلص من آثارها، مسببة له حزنا وأسى ومتاعب يصعب تجاوزها، وحينما تلمع في ذاكرته يشعر بوجعها وكأنها قيلت للتو.
ويشير صيام إلى أن هناك العديد من الأشخاص الذين يجهلون ماذا يمكن أن تفعل الكلمة بالإنسان، وهل لها تأثير ملموس في الحياة؟ “الجواب بالتأكيد نعم”، فحينما تكون الكلمة حادة تصبح “كالسكين” لديها القدرة على أن تصل إلى الأعماق وتجرح بقوة وتتسبب في نزيف مستمر من المعاناة والكآبة.
ويذكر صيام أنه في دراسة أجريت عن التغيرات التي تطرأ على المخ وتسمح لنا بالعمل في إطار جماعي أو مجتمعي، طلب في هذه الدراسة من عينة البحث، وهم متطوعون جميعهم من الطلاب، أن يكتبوا عن تجاربهم المؤلمة البدنية والعاطفية ثم يجرى لهم اختبار ذهني صعب بعد كتابة تلك التجارب بوقت قصير.
والمبدأ الأساسي الذي اعتمدت عليه الدراسة، أنه كلما كانت التجربة التي تذكرها الطالب أكثر إيلاما كان أداؤه في الاختبار أسوأ، وكانت النتائج أفضل لدى تذكر تجارب الألم البدني عن الألم العاطفي.
ويضيف صيام قول الباحث شينسينج زين من جامعة بوردو في ولاية إنديانا الأميركية “إنه من الصعب إحياء ذكرى الألم البدني مقارنة بالألم العاطفي والاجتماعي”.
ويقول مايكل هوجسمان الاختصاصي في علم نفس الطفل في ألمانيا، إنه من المرجح أن تكون أجزاء عدة في المخ تتعامل مع الألم العاطفي الذي يعد تأثيره أبعد مدى.
ويوضح صيام “أي أنه في الألم البدني يمكن رؤية الجراح والكدمات، أما الألم العاطفي فهو يخلف في الغالب القلق والخوف، فلو قال تلاميذ لزميل لهم، إنهم سيعتدون عليه بعد نهاية دوام المدرسة فهو سيعيش في قلق وخوف أكبر بكثير مما قد يحدث له بالفعل”.
ويشير صيام إلى تأثير الكلام الجارح على المرضى النفسيين، حيث وجد بالعديد من الدراسات علاقة بين الكلام الجارح والانتكاسات المتكررة للمرضى على الرغم من تناول المرضى العلاج.
ويؤكد صيام أن الكلمة تبقى أجراسًا في الأذن وتؤثر على القلوب والنفوس، إذ يجب أن نعلم أن كل كلمة نقولها تترك أثرًا بالغًا، فيجب أن نحرص على أن ننتقي أحسن وأجمل الكلمات الطيبة، لنترك أثرًا إيجابيًا في قلوب الناس.
ويصف اختصاصي علم النفس الدكتور موسى مطارنة، الكلمة بـ”الرصاصة” فإن خرجت أصابت وتركت أثرا في قلب الإنسان، فإذا تكلم الشخص بكلمات جارحة سبب ندوبات “نفسية” لدى الآخرين قد تدخلهم في حالة من الألم والقهر.
وإن لم يعبر عن هذا الألم الذي شعر به، هنا بالتأكيد ستظهر انعكاسات سلبية عليه وعلى سلوكه، ومن الممكن أن يصاب بحالة عصبية وردات فعل غير منضبطة، إضافة إلى أنه في بعض الأحيان يصيبه إحساس بالظلم وفقدان القدرة على الرد وهذا يقوده للدخول في حالة من الاكتئاب، وفق مطارنة.
ويوضح أن الشخص الذي يستخدم الكلمات الجارحة هو إنسان يتعمد الإساءة للآخرين وجرحهم، وهذا يعد إسقاطا نفسيا وينتج عنه ردود فعل داخلية ويشعر الشخص الآخر بأنه يظلم نفسه ويسأل “هل الخطأ موجود لدي؟”.
ويشير مطارنة إلى أن الإنسان إذا لم يكن يمتلك القدرة على التفكير الإيجابي ليسيطر فيها على ردات الفعل يصبح لديه نقص داخلي، وهذا قد يسبب العدوانية في بعض الأحيان، وهنا يصبح يعاني اضطرابا عصبيا ونفسيا صعبا جداً يبث الكآبة والسوداوية في داخله.
وينوه الى أن أفضل طريقة ليحمي الشخص نفسه من هذه الكلمات، هي بالابتعاد عن الأشخاص الجارحين بكلامهم سواء في المجتمع أو بين الأصدقاء والأماكن التي يتواجد فيها دائماً، وأن يقترب من الأشخاص الذين ينسجم معهم في الأفكار والمبادئ وطريقة الحياة.
“والأهم من هذا كله هو إذا أحسست أن الكلمات قاسية عبر عما في داخلك لا تكبته بل ناقش وفرغ التوتر والقلق الذي أصابك”، وفق مطارنة، من خلال المشي في الطبيعة والتحدث إلى شخص إيجابي أو اللجوء للتحدث مع استشاري نفسي، إذ يجب ألا يخزن الإنسان ألمه بداخله.
ومن الجانب التربوي، يبين الدكتور عايش نوايسة أنه في بعض الأحيان تصدر بعض الكلمات من غير قصد، لكن عندما يعيد التفكير بالكلمة يعني أنه سبب أثرا نفسيا سلبيا في الشخص الآخر.
ويشير نوايسة إلى أن هذا يتعلق بتقدير الشخص للمواقف في داخل الأسرة أو في محيط المدرسة والأصدقاء والعمل أحيانا، فالبعض يسميها “صراحة” وهي ليست كذلك، فإن الصراحة تكون مبنية على الواقع وتساعد الأشخاص على النهوض بأنفسهم، وهذا يساعد على التغلب على نقاط الضعف والتحدث عن نقاط القوة، إذ يكون هنالك توازن في الألفاظ من الطرفين الإيجابي والسلبي.
يقول نوايسة “الكلمة الجارحة تترك أثرا نفسيا كبيرا، وخاصة عند الأطفال على مستوى الأسرة وتعاملها فيما بينهم، فإن الكثير يستخدم الألفاظ غير المحببة على أنها غير ذلك، وعند محاسبة الأب على هذا الكلام يبرر بأنه ابنه ويعامله كما يريد، لكنه في الحقيقة يترك جرحا نفسيا كبيرا”.
هذه الكلمات، وفق نوايسة، تسبب شرخا نفسيا، وفي بعض الأحيان، هنالك أطفال يجدون صعوبة في التغلب عليها، ويصبح الأمر أصعب إذا انتقل السلوك والألفاظ نفسها إلى المدرسة، حتى لو كان من باب الدعابة والمزاح، فهذا لا يلغي أثرها النفسي الكبير جدا التي قد تستمر معه للحياة على المدى البعيد.
ويقول “إننا نلاحظ أن هنالك العديد من الألفاظ التي كانت غريبة ومرفوضة فيما مضى، لكنها اليوم تقال بكل بساطة، فإن التساهل في التعامل مع هذه الألفاظ وتقبلها وعدم إبداء أي ردة فعل لرفضها هو الأمر الخاطئ”.
ويؤكد نوايسة ضرورة انتقاء نوعية الكلمة الموجهة للطفل لأنه “يسجل” هذه الكلمات وعلى المدى البعيد قد يتحول ويصبح سلوكا سلبيا يمارسه مع الآخرين.
وينوه نوايسة “علينا ألا ننسى أن أثر هذه الكلمات على المدى البعيد وليس لحظيا، وهنالك بعض الأمور لا تنسى، فإن الإنسان قد ينسى الفرح والسعادة ولكن الألم لا يمكن نسيانه، وهذا يحتاج لأن يكون هنالك لغة للتفاهم على مستوى الأسرة بين الوالدين وأطفالهما والمدرسة بين المعلم والطلاب وعلى مستوى مواقع التواصل الاجتماعي”.