اللغة الفرنسية في الجزائر: قطيعة مع لغة المستعمر

جزائري يتصفح العدد الأخير من صحيفة "ليبرتي" الناطقة بالفرنسية التي أغلقت مؤخراً - (المصدر)
جزائري يتصفح العدد الأخير من صحيفة "ليبرتي" الناطقة بالفرنسية التي أغلقت مؤخراً - (المصدر)

دنيا رمضان - (زود دويتشه تسايتونغ) 4/5/2022

تزايد عدد الوزارات الجزائرية التي تعلن عن تخليها مستقبلا عن استخدام اللغة الفرنسية، متفاعلة بذلك مع مزاج شعبي جزائري سائد. فهل من أسباب أخرى؟

  • * *اضافة اعلان
    تظهر وزيرة الثقافة والفنون الجزائرية، وفاء شعلال، على شاشة التلفزيون وهي تكافح من أجل العثور على الكلمات. الحديث يدور باللغة العربية -وليس سرا أن الجزائريين يتحولون في العادة إلى الفرنسية، أو أنهم يدمجون في حديثهم على الأقل الكثير جدا من الكلمات الفرنسية، بحيث أنها تطغى بسرعة على العربية. وتتحدث المذيعة المصرية إلى الوزيرة الجزائرية حول تأثير الفرنسية القوي في وطنها. وتقول وهي تواصل ابتسامتها الودودة إنها تعرف الكثير من الجزائريين، الذين يتحدثون الفرنسية أكثر من العربية.
    وبدورها، تبرر الوزيرة ذلك بالتأثير الفرنسي القوي في مجال التعليم. ثم تقول: "نحن نفكر بالفرنسية ونتحدث بالعربية. ولهذا السبب، فإن بعض الكلمات العربية لا تخطر ببالنا بمثل هذه السرعة". لكن المذيعة لا تفهم تماما وتحاول تصحيحها: "أنتِ تفكرين بالعربية وتتحدثين الفرنسية". وتقول الوزيرة الجزائرية: "لا، بل بالعكس". ولكن المذيعة لا تريد تصديقها حقا. ولذلك تضطر إلى إلغاء سؤالها التالي عن مدى اختلاف التفكير بالفرنسية عن التفكير بالعربية. وهو موضوع حساس جدا بالنسبة للوزيرة.
    أثار هذا اللقاء موجة من التعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي. وكان مضمون تعليقات كثير من الجزائريين يفيد بأن الوزيرة وفاء شعلال تتحدث فقط باسم النخبة الفرنكوفونية، التي تتقاسم المناصب الحكومية بين بعضها بعضا -وليس باسم الشعب الجزائري الذي يتحدث العربية. وجاء في أحد التعليقات: "عندما يريدون قتل هوية شعب ما، فإنهم يقتلون أولا لغته"؛ وفي تعليق آخر: "كلامها صحيح، فجميع المسؤولين الحكوميين مُفَرْنَسون، ولكننا لا نقبل بهذه الحقيقة. نحن نعيش مثل نعامة تدفن رأسها في الرمال".
    يتزايد اعتراف السياسيين بهذا المزاج العام السائد لدى الشعب. في الأشهر الماضية، منعت وزارات عدة استخدام لغة المستعمرين الفرنسيين في المراسلات الرسمية. وبدلا من اللغة الفرنسية، قررت في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2021 وزارة الشباب والرياضة، ووزارة التربية الوطنية، ووزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي جعل العربية لغة إلزامية. وتبعتها في بداية شهر نيسان (أبريل) 2021 وزارة الثقافة، التي أصبحت ترأسها الآن السيدة صورية مولوجي. ويغلب أن الوزراء اتخذوا هذه الخطوة ردا على التوترات بين الجزائر وباريس في الخريف الماضي أيضا -على الأقل بشكل رسمي.
    ماكرون ينكر وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار
    أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي في صحيفة "لوموند" الفرنسية أزمة دبلوماسية بين البلدين في ذلك الوقت. فقد اتهم إيمانويل ماكرون "النظام السياسي العسكري" الجزائري بأنه ما يزال يستخدم الاستعمار كذريعة لتبرير إخفاقاته. ونقلت الصحيفة الفرنسية عن ماكرون قوله إن النظام الجزائري "يرسخ فكرة في ذاكرة الأمة بأن فرنسا هي سبب كل مشاكل الجزائر منذ العام 1962". وبالإضافة إلى ذلك، تساءل عما إذا كانت توجد أمة جزائرية قبل الاستعمار -ما أثار احتجاجا شديدا في الجزائر.
    احتلت القوات الفرنسية الجزائر في العام 1830، وأعلنت هذا البلد الشمال إفريقي منطقة فرنسية. وأدت المذبحة التي ارتكبتها القوات الاستعمارية الفرنسية في أيار (مايو) 1945 في حق عشرات الآلاف من الجزائريين في سطيف، إلى زيادة قوة حركة الاستقلال الجزائرية. وفي العام 1954، بدأت، بقيادة جبهة التحرير الوطني، حرب التحرير الجزائرية المعروفة باسم حرب الجزائر ضد القوة الاستعمارية الفرنسية، التي أدت إلى حصول الجزائر على استقلالها في العام 1962. وقد قمعت القوات الفرنسية حرب التحرير بوحشية وقتلت مئات الآلاف من الجزائريين.
    نتيجة لتصريحات ماكرون، استدعت الحكومة الجزائرية سفيرها في باريس الخريف الماضي ومنعت الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق أراضيها. وأعلن ماكرون بعد ذلك بوقت قصير من خلال أحد مستشاريه أنه يأسف لـ"الجدال" و"سوء الفهم". وسافر في بداية شهر كانون الأول (ديسمبر) 2021 وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إلى الجزائر. وبعد ثلاثة أشهر انتهت هذه الأزمة الدبلوماسية. ولكن لم يشارك أي ممثل رسمي عن الحكومة الجزائرية في الذكرى الستين لوقف إطلاق النار في الحرب الجزائرية، والتي تم إحياؤها في نهاية شهر آذار (مارس) 2022. وقد دعا ماكرون إلى مزيد من المصالحة بين فرنسا وهذه المستعمرة الفرنسية السابقة.
    لكن تصريحات ماكرون المثيرة للجدل لم تُنسَ في الجزائر، بحسب قول خبير شؤون السياسية الجزائري زين العابدين غبولي لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، الذي يبلغ عمره ستة وعشرين عاما ويبحث في العلاقات الأورومتوسطية في جامعة غلاسكو: "لقد أشعلت تصريحات ماكرون تنافسا لغويا واجتماعيا ثقافيا قديما، وأدت إلى زيادة الشكوك في فترة ما بعد الاستعمار". ولكنه يصف خطوة وزيرة الثقافة الجزائرية الجديدة بأنها "معركة تقليدية يخوضها معسكرها المحافظ ضد النخبة الثقافية الفرنكوفونية"، وبأنها "استراتيجية علاقات عامة هدفها الاستفادة من تصريحات ماكرون من أجل اكتساب الشعبية". وهو يعتقد أن الجزائر تشهد الآن تغييرا اجتماعيا عميقا لن يتمتع بعده الفرنسيون بالامتيازات نفسها وبالمكانة النخبوية نفسها.
    الشباب بشكل خاص يبتعدون
    عن اللغة الفرنسية
    ازداد هذا المزاج العام المناهض للفرنسية في الجزائر خلال الأعوام الثلاثة الماضية، مثلما يقول زين العابدين غبولي. ويضيف أنه يرتبط أيضا بحركة الحراك الاحتجاجية، التي تطالب بإعادة تنظيم شاملة للنظام السياسي القائم منذ استقلال الجزائر. وقد تمكن الحراك الجزائري خلال الثلاثة أعوام الماضية من حشد مئات الآلاف من المتظاهرين -للإطاحة أولا بالرئيس الدائم عبد العزيز بوتفليقة، ثم لمحاربة الشبكة السياسية الحاكمة حتى اليوم والمكونة من العسكريين ورجال المخابرات وأباطرة الصناعة.
    ويعد الرئيس عبد المجيد تبون، المنتخب في نهاية العام 2019، بالنسبة للكثير من الجزائريين من أتباع النظام القديم. وكثيرا ما كانت تُسمع وتُشاهد في مظاهرات الحراك الجزائري شعارات ولافتات معادية للفرنسيين -جاء في بعضها ما معناه: "أينما حلت فرنسا حل الدمار"، أو "ماكرون ارحل فأنت غير مرحب بك في بلد الشهداء". وركز المتظاهرون خلال هذه الاحتجاجات مرارا وتكرارا على أوجه التشابه بين مطالبهم والكفاح ضد الاستعمار، مثلما ذكر لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" أندرو فاراند، مؤلف كتاب "الحلم الجزائري- الشباب والبحث عن الكرامة" الصادر في العام 2021. وبحسب أندرو، فإن جيل الشباب خاصة يبتعد بشكل متزايد عن اللغة الفرنسية.
    من المعروف أن ثلثي سكان الجزائر تقريبا تقل أعمارهم عن خمسة وثلاثين عاما. وقد عاش أندرو فاراند في الجزائر من العام 2013 حتى العام 2020 ليرى كيف يفكر "الجيل المقبل في داخل عملاق شمال إفريقيا النائم"، مثلما كتب في كتابه. فالجزائر هي أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا. وعلى الرغم من وجود اختلافات كبيرة بحسب المناطق والطبقات، إلا أن العديد من الشباب الجزائريين يشعرون اليوم بقدر أقل من الثقة في استخدامهم اللغة الفرنسية بالمقارنة مع جيل آبائهم وأجدادهم، مثلما يقول أندرو فاراند.
    ويخبرنا أندرو فاراند بأن رجال الأعمال الجزائريين كثيرا ما يشتكون من عدم عثورهم على عمال شباب يستطيعون الكتابة والتحدث بالفرنسية بشكل صحيح. زد على ذلك أن: "الشباب ينشؤون ويكبرون في عالم الإنترنت، حيث اكتسبت اللغة الإنجليزية أهمية جديدة وباتت لأول مرة تنافس اللغة الفرنسية منافسة حقيقية". وهذا الاتجاه يظهر أيضا في مجالات أخرى. فعندما تم مؤخرا إغلاق صحيفة "ليبرتي" الرائدة الناطقة بالفرنسية بعد ثلاثين عاما من عملها في الجزائر، لم تحزن عليها سوى قلة فرنكوفونية قليلة من الجزائريين.
    ويمكن أن يستثنى من هذا التطور الشباب الجزائريون الذين يغازلون فكرة الهجرة إلى فرنسا فقط، مع أن عددا متزايدا منهم يعرفون أن الحياة في فرنسا قد تكون صعبة بالنسبة للمهاجرين الجزائريين. وخاصة مع صعود اليمين المتطرف، والاحتمالات التي كانت قائمة لفوز المرشحة اليمينية مارين لوبان برئاسة فرنسا. وفي هذا السياق، يعتقد زين العابدين غبولي أنه كان من شأن "فوز مارين لوبان أن يكون كارثيا بالنسبة للتأثير الفرنسي في الجزائر، ومن شأنه أن يزيد من سرعة عملية الابتعاد الجارية عن اللغة الفرنسية".
    *ترجمة عن الألماني لموقع "قنطرة" رائد الباش.