الماما ميركل

فازت أنجيلا ميركل، نهاية الشهر الماضي، بمنصب المستشارة الألمانية، للمرة الثالثة في حياتها. وفوز سيدة ألمانية جاءت من الجزء الشرقي منها، والذي كان تحت الحكم الشيوعي زمن الحرب الباردة، ربما يثير في الذاكرة، بشكل طبيعي، نموذج المرأة الحديدية، مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة (1979-1990). لكن الحقيقة أنّ هناك صورة جديدة. اضافة اعلان
لم تبلغ ميركل الستين من عمرها بعد. بلغت الخامسة والثلاثين قبل بدئها العمل السياسي، وحصلت على دكتوراة الفيزياء قبل ذلك. في سيرتها الذاتية أنّها يوم سقوط جدار برلين، العام 1989، ذهبت لتلقي نظرة سريعة على الجدار، وعادت إلى البيت لتنام، لأنّها يجب أن تستيقظ مبكراً. ولكنها بعد 13 شهرا كانت قد انتُخبت للبرلمان، ثم أصبحت وزيرة.
أنظرُ لصورتها العام 1997 عندما عُينت وزيرة للبيئة، فتحضر في ذهني نساء روايات الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، التائهات. ولعل زواجها في سن الثالثة والعشرين، ثم طلاقها بعد خمس سنوات، وكذلك هوايتها القديمة بالتجول على الدراجة الهوائية في الريف، تعزز هذه الصورة.
لكنها هي ذاتها السيّدة التي خصص رئيس فرنسا الحالي فرانسوا أولاند، جزءا من حملته الانتخابية ضد سلفه نيكولا ساركوزي، ليقول إنّه لن يطيعها، ولن يقبل شروطها التي تفرضها بفضل مكانة ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، وقوة اقتصاد بلادها، وتطالب بالتقشّف. لكنه اضطر للاتصال بها بعد ساعات من فوزه في الانتخابات، في اعتراف ضمني بصعوبة تجاوزها. كما وسّط أولاند نظيره الأميركي باراك أوباما ليرطّب العلاقات بينهما. وهي السيدة التي استقبلها اليونانيون بالمظاهرات نتيجة لشروطها عليهم بالتقشف قبل منحهم قروضا. وبدت تلك المظاهرات شيئا مثل "مناهضة الألمنة"، على غرار "مناهضة الأمركة"؛ ما يحمل ضمناً علامات الصعود الألماني في سلم القوة العالمية.
من الناحية الفكرية والاقتصادية، فإن ميركل هي الجدار الصامد، نظريّا وعمليّا، أمام الليبرالية الجديدة، داخل بلادها. ولكن خارجها لها شأن آخر. فبعد أن انفجرت الأزمة المالية العالمية العام 2008، اتحدت ميركل مع صديقها ساركوزي ليطلبا من الولايات المتحدة نوعا جديدا من الرأسمالية. وكل ما تطلبه يعني تبني الليبرالية بصيغتها المعدلة، والتي تبنتها بريطانيا والولايات المتحدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى ظهور المحافظين الجدد في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وتحديداً ظهور ثاتشر في بريطانيا، والرئيس الأميركي رونالد ريغان في الولايات المتحدة. فهذان رفضا نموذج الليبرالية التي نظّر لها الإنجليزي جون مينارد كينز، والتي قادت العالم لعقود بعد تلك الحرب، وتتضمن دورا فاعلا للدولة في مراقبة السوق والاقتصاد، وفي مساعدة الفئات الفقيرة، كما على صعيد التعليم والصحة، والقيام بمشاريع حكومية كُبرى، إلى جانب الحفاظ على الملكية الخاصة، وعدم الذهاب للشيوعية. وبينما أصبح الاقتصاد الأميركي منذ الثمانينيات يعتمد على المضاربات، وبيع القروض، والاستثمارات في أسواق المال، أكثر مما يعتمد على الصناعة والاقتصاد الحقيقي في السلع والإنتاج، بقيت ألمانيا متمسكة بالصناعة، ومتمسكة بوضع قيود على رجال الأعمال والمستثمرين، وفرض رقابة قوية على قطاع البنوك والأعمال. وكل هذا نقيض الولايات المتحدة التي تركت تدريجيا السوق بلا قيود أو قوانين.
ومن أمثلة ما فعلته ميركل، موافقتها في العام 2009 على منحة بقيمة 2500 يورو لمن يستغني عن سيارته التي يزيد عمرها على تسع سنوات، ويشتري جديدة. وبهذا تكون قد دعمت الصناعة، وحمت البيئة، وساعدت الطبقات الأفقر، وأرضت الاشتراكيين، وأرضت الصناعيين العاملين في قطاع السيارات. لكن على العكس من هذا، تدعو ميركل الدول المدينة في أوروبا للتقشف، وخفض المساعدات للعاطلين عن العمل، ولقطاعي الصحة والتعليم، وغير ذلك. ولعل هذا يرضي الناخب الألماني الذي لا يريد أن يشعر أنّه يضحي لأجل مواطني دول أخرى، وسيرى أنّ القروض والمساعدات التي تمنحها ألمانيا لتلك الدول، إنما تساعد في استدامة أسواق لصناعاته.
بعد كل هذا، طبيعي أن يبدأ صحفيون في ألمانيا بوصف ميركل بأنّها "الماما"، وليس المرأة الحديدية. وهناك سبب آخر لهذا اللقب، هو أنّ ميركل تتجاوز السياسيين ومساعديها عادة وتتركهم حيارى، وتكثر من اللقاءات مع الناس العاديين، ومع ممثلي المدن والولايات الألمانية المختلفة مباشرة، في نوع من الممارسة للديمقراطية المباشرة.