ترجمات

المترجمون: ميسِّرو العالم المُهمَلون

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

تقرير خاص – (الإيكونوميست) 19/6/2021

مع أن المترجمين والمترجمين الفوريين هم الذين ييسرون التفاهم في العالم، فإنهم نادرًا ما يحصلون على ما يستحقون من الاعتراف والتقدير.
* * *
هل أدت ترجمة خاطئة إلى وضع المركبات الجوالة على سطح المريخ؟ في العام 1877، استخدم جيوفاني شياباريللي، عالم الفلك الإيطالي، تلسكوبه الأكثر حداثة في ذلك الوقت لعرض ووصف وجود ما أسماه “canali” على هذا الكوكب. وقفز المترجمون الإنجليز إلى الحديث عن اكتشاف ما ترجموه على أنه canals “قنوات” (بمعنى المجاري المائية الاصطناعية المنشأة بفعل فاعل). وتبعت ذلك موجة من التكهنات حول احتمال أن يكون كوكب المريخ مأهولاً بالسكان، وهو ما ترك بصمة عميقة في الخيال البشري. وحتى يومنا هذا، يعد “المريخ” مرادفًا لوجود اللحياة في الفضاء.
لكن الكلمة الإيطالية كان يمكن أن تتُرجم أيضاً على أنها “channels” (أي الأخاديد الطبيعية من دون تدخل واعٍ). أيهما هي التي عناها شياباريللي؟ في بعض الكتابات كان حريصًا على تثبيط الاستنتاجات الثابتة حول وجود حياة على كوكب المريخ؛ وفي حالات أخرى، شجع بالضبط تلك الاستنتاجات. ويبدو الأمر كما لو أن كلمة “كانالي” الإيطالية قد تركت له معاني “القنوات” و”الأخاديد” في الوقت نفسه.
ترِدُ هذه القصة في “الرقص على الحبال: المترجمون وميزان التاريخ” Dancing on Ropes: Translators and the Balance of History، كتاب آنا أصلانيان الجديد حول أدوار المترجمين والمترجمين الفوريين في اللحظات الحاسمة من التاريخ. وهو كتاب مليء بالقصص المفعمة بالحيوية من نوع قصة قنوات شياباريللي. والسيدة أصلانيان هي نفسها مترجمة ومترجمة فورية (في وصف المهنة، يعمل المترجم كتابيًا، والمترجم الفوري كلامياً)، وهي تجمع بين الخبرة العملية والمعرفة بالتاريخ الموثَّق، ويترك كتابها القارئ مع احترام كبير لمهمة المترجم.
في الوضع المثالي، يكون المترجمون الفوريون غير مرئيين، حيث يشعر الشخصان اللذان لا يتشاركان لغة واحدة بأنهما يتحدثان إلى بعضهما بعضا مباشرة. لكن هذا الوضع المثالي يكاد يكون غير قابل للتحقق. فالمتحدثون يقاطعون المترجمين الفوريين. ويتعامل المستمِعون معهم بوقاحة أحياناً، كما لو أنهم (وليس المحاور الفعلي) هم الذين قالوا شيئًا مرفوضًا موجباً للاعتراض. وبالتالي، يقع اللغوي المسكين في الوسط تحت إغواء التدخل لتنظيف -أو تلطيف- ملاحظة وقحة لأحد المتحاورين؛ وتروي أصلانيان بعض الحكايات الممتعة من المترجم الفوري الروسي لسيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي السابق المعروف باستخدام ألفاظ فاحشة.
والعمل مستنزِف. في “لعبة اللغة”، تصف المترجمة البرازيلية إيواندرو ماجالهايس، كيف تم، في محاكمات نورمبرغ، استخدام الأكشاك الصغيرة الموصولة بأسلاك الهاتف لأول مرة للترجمة الفورية إلى لغات عدة. وكان المترجمون يحصلون على يوم إجازة واحد كل ثلاثة أيام، وتم تحديد نوبات عملهم بـ45 دقيقة. ومع ذلك، كما قالت مترجمة، فقد جعلتها أربعة أشهر في نورمبرغ تشعر بأنها أكبر بعشر سنوات. ربما كان العثمانيون فقط، الذين جعلوا من “الترجمان” وظيفة قوية نافذة -كان كبير المترجمين هو نائب وزير الخارجية في الوقت نفسه- هم الذين منحوا المترجمين الفوريين الاحترام الذي يستحقونه.
لكن الترجمة (الكتابية) مختلفة: إنها عادة ما تكون مقرونة بالعزلة، وتبدو في ظاهرها وكأنها أكثر راحة، لكنها أصبحت الآن تحت ضغط اقتصادي هائل. في العصر الرقمي، يتنافس الجميع مع الجميع وغالبًا ما يأخذ المشترون أقل عرض سعر (أو يترجمون باستخدام “غوغل”). وقد لا يكفي دخل العمل الأدبي الذي لا يمكن أن يترجمه متعهد مجهول أو آلة دائماً لدفع فواتير المترجم، ولكنه قد يوفر التحفيز على الأقل. وتتذكر الآنسة أصلانيان محاولة تحويل لهجة روسية محكية في المناطق الريفية في أوكرانيا إلى إنجليزية تحمل المزاج نفسه. وبعد أن نظرت هي وأحد المتعاونين معها في تنويع اسكتلندي ممكن ورفضاه، ذهبا إلى استخدام مستلات من الإنجليزية المحكية في غرب إنجلترا. ومنذ العام 2016، اختار المشرفون على جائزة بوكر الدولية للرواية قسمة الجائزة المالية بالتساوي بين المؤلفين ومترجميهم.
تقول أصلانيان إن الترجمة الخاطئة لعبت أيضًا دورًا في القصف الذري الأميركي لليابان في العام 1945. في ذلك الحين، قال بيان رسمي إن اليابانيين سوف “mokusatsu” إعلان بوتسدام الذي دعا اليابان إلى الاستسلام. ويمكن أن يعني هذا الفعل باللغة اليابانية أشياء تشمل “عدم تقديم أي تعليق على” و”القتل بصمت”، ولكن أيضًا “التعامل بازدراء صامت”. وقد مال الأميركيون نحو التفسير الأخير -إهانة متحدية- وهو ما ساعد على تحديد مصير هيروشيما.
لطالما أمل أنصار الاسبرانتو، وهي لغة اصطناعية، في أن يؤدي التفاهم إلى تعزيز السلام بين الشعوب. واتخذ دوغلاس آدامز، مؤلف كتاب “دليل المرتحل إلى المجرة”، الموقف المعاكس بطريقة ساخرة. وحسب تصوره المتخيَّل، فإن “سمكة بابل” -التي توفر، بمجرد وضعها في أذنك ترجمة فورية مثالية لجميع اللغات- هي المسؤولة عن نشوب الحروب أكثر من أي شيء آخر في التاريخ.
لكن التعليق الأكثر بلاغة على الترجمة ربما يأتي من خوسيه أورتيغا إي غاسيت، الفيلسوف الإسباني الذي تستشهد به السيدة أصلانيان. وقال إن كلمتين في لغتين لا يمكن أن تكونا أبداً ترجمة دقيقة لبعضهما بعضا. وأكثر من ذلك، لا يمكن أن يقصد شخصان الشيء نفسه بالكلمة نفسها (مع استثناء محتمل لبعض المصطلحات العلمية). وبذلك، تكون الترجمة مسعى “طوباوياً”؛ فعلاً مستحيلاً لقراءة العقل بطريقة مثالية. وهذا لا يعني أنه لا ينبغي محاولتها -لكن على أولئك الذين يحاولونها أن يكونوا “طوباويين جيدين”، يعرفون أنهم لن ينجحوا أبدًا.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Translators are the unacknowledged facilitators of the world

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock