المثقف الآمِن.. خديعة الاستقرار

أتأمل خبرات مثقفين ممن صنعوا فارقاً يعتد به في وعي الإنسان ومعرفته بنفسه وبالعالم. وألتفت بالتحديد إلى مجموعة أسهمت بفاعلية في إحداث جملة التحولات التقدمية والنهوض بالقضايا الإنسانية والتحررية، ونشدت حياة أسمى للبشرية جميعاً. وكثيراً ما أكتب في هذا المكان عن بعضهم ما يشبه المراثي، لأن خبرات هؤلاء المثقفين المختلفين، إما ملأتها المعاناة الكثيفة والسجن والمطاردة، أو أنها انتهت بمصرعهم اغتيالاً.اضافة اعلان
كتبت هنا، مثلاً، عن غسان كنفاني، وناجي العلي، وجورج حاوي، وعلي فودة. وكتبت مرة عن الأميركية التي استشهدت في غزة؛ ريتشيل كوري، ومرة عن فرانتز فانون، وآخرين. وفي الحقيقة، يمكن أن يجد المرء في مفكرة الأيام كلها تقريباً ذكرى واحد يكتب عنه من هؤلاء المثقفين والمناضلين الكثر، الذين لم تكن حياتهم نوماً على ريش نعام، لكنهم أنتجوا فكراً وفناً. مثلاً: ناظم حكمت، يانيس ريتسوس، تشي غيفارا، غارسيا لوركا وبابلو نيرودا، ولا حد لطول القائمة.
فكرت دائماً بهؤلاء، الذين نستذكرهم طلباً للإلهام، وفي كل مرة وجدت في نفسي فكرة غامضة حاولت كثيراً أن أجد لها اسماً. وفي لحظة، تراءت لي في لجج الحيرة عبارة غائمة من كلمتين، يبدو أنها تعمدت أن لا تفسر نفسها لتتركني أمام معضلة الحفر في المعنى: "المثقف الآمِن".
من الواضح، بطبيعة الحال، أن الأسماء التي ذكرت من المثقفين لم تكن تنتمي قطعاً إلى هذه الفئة: "المثقف الآمن"، بالمعنى الفيزيائي على الأقل. كان هؤلاء غالباً عرضة للسجن والمطاردة والتنكيل، والدخول أحياناً إلى مصحات الأمراض العقلية، بل انتهى المطاف بالكثيرين منهم إلى التصفية الجسدية وكتم الصوت، حرفياً، بمسدس أو قنبلة. هكذا استنتجت أن العبارة الغامضة عن المثقف الآمن تستدرجني إلى تفسير الشيء بضده.
والضد، كثير وواضح. لعل أبرع طريقة ابتكرها مكر السلطة، بحيث تكون أقل كلفة وأكثر نفعاً بما لا يقاس من الاعتقال والاغتيال، هي "تأمين المثقف"! كيف؟ امنح المثقف، الذي يكشف عن سخط ونزوع ثورجية، شعوراً بالأمان النسبي. أعطه وظيفة؛ أمّن له مساحة للكتابة، للرسم أو التعبير بالشكل الذي يتقنه؛ اجعله أقل قلقاً –وقلقاً مع ذلك- من احتمال طرده من العمل؛ أعطه الفرصة ليرتزق، وهكذا.. وستضمن تقريباً تشغيل البشرية الغريزية: إن الإنسان لا يرغب بالتخلي عن "استقراره" بلا صراع أخلاقي عنيف. وبذلك، تصبح أظافر المثقف أقصر، وقلمه أكثر نعومة، وخطابه أقل حدة. معقول؟
أصحاب الأسماء التي ذكرت أعلاه، عملوا أيضاً بدفع بدهية غريزية أيضاً: الدفاع عن البقاء –غالباً بالهجوم. إن المُطارد في حياته أو رزقه، المتنقل من مخبأ سري إلى آخر، أو من عمل مؤقت بائس إلى آخر، يعيش –موضوعياً- في ظروف تجعله يؤمن بحتمية العمل لتغييرها، سويّة مع القوى التي قدرتها. ولذلك، عمل هؤلاء المثقفون بكل الطاقة التي تولدها غريزة البقاء ضد السلطات النقيضة، وبطرق تحرمها من إمكانية المراقبة والتنبؤ والضبط، فشكلوا بذلك خطراً جعلها تستهدفهم بالتنكيل والتصفية. وبهذا المعنى، لم يمثل هؤلاء المثقفون حالات فردية، بقدر ما اعتبرتهم السلطات تيارات، أو نُويّات نشطة لحراكات جمعية وجماهيرية. وربما كان تجريدهم من "الأمن" الاصطناعي، خطأ غير مقصود من جانب العقل السلطوي، والذي أسهم في زيادة "خطورتهم" بهذا المعنى.
في المقابل، نتحدث الآن مثلاً، عن النخب الفكرية و"الثورية" الفلسطينية –المنتمية، نظرياً، إلى أكثر الحالات العربية المعاصرة تطلباً للتغيير الثوري- فنقول إنّ "الأمن" أو "الاستقرار" الظاهري السائد الآن تحت الاحتلال، يجعلهم مترددين في إرادة تغيير الوضع الراهن، والمغامرة بخسران "الامتيازات". وباختلاف التفاصيل، ينسحب هذا الرضى بطرق مختلفة على النخب والمثقفين هنا وهناك، وربما في أوروبا والعالم. وإذا رصدنا خطاب المثقفين "الثوريين" الآمنين نسبياً، فسنجده منطوياً على سخط أقل، وحدة أقل. إننا نسمع أصواتاً لا نمسك بجوهرها، ونراها وهي تغير اصطفافاتها مثل القمصان، وتحتج –وإنما بلهجة مُعاتبة، وبحيث تكون هتافاتها أخيراً مجرد تنويعات على خطاب السلطات. إن معظمنا يكتب، و"يتمرد" وإنما بحرص على عدم التفريط بهذا "الأمن" النسبي المسوّغ بالواقعية. لقد أصبح معظمنا مستقرين، وغير مقصودين بتصريح وزير دعاية هتلر، جوزيف غوبلز: "كلما سمعت كلمة مثقف، تحسست مسدسي".

[email protected]