أفكار ومواقف

المجتمع العراقي في الأردن (1)

لا أخفي أنني فرحتُ فرحا غامرا بتصدر الطالبة العراقية مريم البياتي لائحة أوائل الثانوية العامة في الأردن لهذا العام الدراسي. وهو أمر ربما يكون ناتجاً عن نوع من “الافتخار الوطني”، بتعبير أحد الزملاء، بقصة نجاحٍ خارج الوطن، حقّقها أحدُ أبناء وطنك، ممن يتقاسم معك تأريخَ الألم والمصاعب.
مع ذلك، هذا المقال ليس ابتهاجاً بهذا النجاح، ولا تعبيراً عن هذا الافتخار، والأمرُ أبعدُ من اجتهاد طالبة، وأبعد من النقاش الذي أثاره نجاحُها عن حقوق الطلبة غير الأردنيين ومدى مساواتهم بأقرانهم الأردنيين.
دائماً، ثمة ما بين السطور، ودائما ثمة مجازات وكنايات. ودائما، ثمة خلفيات سوسيو-سياسية، لوقائع تبدو عادية ومباشرة.
وهذه فرصة لاستئناف اهتمامٍ أنهمك به منذ سنوات، عن سيرورة المجتمع العراقي في الأردن؛ البلد الذي أعيش فيه، كغيري من عشرات الآلاف من العراقيات والعراقيين، منذ عقد من الزمان. وأظن أن تفوق مريم يرتبط، بشكل صميمي، بهذه السيرورة.
وباختصار: تمثل مريم البياتي الإعلانَ الرسمي عن ولادة جالية عراقية طويلة الأمد في الأردن.
هذه الجملة الأخيرة تبدو كأنها نتيجة شديدة الكثافة. ومثلُ هذه الجمل تصلح لأن تكون جملا ختامية، في العادة. لكنني صدّرتُها، ليكون المقالُ تفسيرا وشرحاً وتفصيلاً لهذه الجملة المفتاحية.
تأريخُ الجالية العراقية في الأردن تأريخ عريق؛ فهو يعود لعقود خلت. وقد تشكّلت هذه الجاليةُ من موجات الهجرة المتعاقبة من العراق. وهي هجرة ارتبطت، في الأساس، بعوامل سياسية في داخل بلاد الرافدين، قصدت الأردنَ بسبب كونه واحداً من أقرب بلدان الجوار إلى العراق. وهكذا، ومع كل قطع سياسي في العراق، تتدفق موجة من المهاجرين. بدأ الأمرُ مع انقلاب 1958، ومرّ بانقلابَيْ 1963 و1968، ثم موجة أواخر السبعينيات. لكن الهجرة الأهم هي التي شهدتها لحظتان مفصليتان: ما بعد 1991، وما بعد 2003. أقول: أهم، من جهة الحجم، والطبيعة السياسية، والنتائج التي خلّفتها.
المقامُ، هنا، لا يحتمل الحديثَ عن مكونات هذه الموجات، لكنني أريد أن أركز على موجة ما بعد 2003، التي ما نزال نعيش نتائجها. تشكل الطبقةُ الوسطى عمادَ هذه الموجة الأخيرة، وتحديداً، مَن لم يتلاءم من أفرادها مع ظروف العراق الراهنة؛ السياسية والمعيشية، أو مَن ترك الوضعُ السياسي الراهن أخطارا على حياته. وكذلك، تضم هذه الموجةُ الطبقةَ فوق الوسطى، من البرجوازية العراقية؛ من رجال أعمال ومستثمرين، وجدوا الأردنَ فضاء حاضنا وآمنا لاستثماراتهم، فشغّلوا عجلةَ استثمار، أصبحت -منذ نحو عقد- الأولى بين الاستثمارات الأجنبية في الأردن.
غير أن الأردن في ثقافة المهاجر العراقي، هو “بلد ترانزيت”، بحسب المصطلح الرائج في حقل “دراسات اللاجئين”؛ أي إن العراقي لا يتعامل مع الأردن بوصفه هدفا نهائيا، بل محطة، يعبر منها إلى بلد ثالث للجوء (في الأغلب شمال أوروبا، وأميركا، وكندا، وأستراليا، وهي نفسها البلدان التي تمثل قبلةَ اللاجئين من أي مكان أتوا من هذا العالم)، أو يعود منها إلى بلده بعد أن تهدأ حاله.
مع ذلك، أصبح عمرُ هذه الموجة الكثيفة من المهاجرين العراقيين نحو ربع قرن أو يزيد، أي إن هذه المحطة ولدت أجيالا، ربما تكون مريم البياتي واحدة منهم، وأخذت أجيالا. إنها محطة طويلة الأمد، فضاء زمني مديد، وليست محطة ترانزيت عابرة، بكل تأكيد.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock