المرابطون في الكرك

مشهد تحرير قلعة الكرك لا يضاهيه في بسالة وصمود أبنائه، إلا المشاهد التي كانت تأتينا وما تزال من ساحة القدس، ومن قرى فلسطين، حيث الملثمون وغير الملثمين الشجعان يواجهون عدوهم بصدورهم العارية، في سبيل طرد الأعداء من أراضيهم الطاهرة العصية على خطط الاستيطان والاحتلال القذر.اضافة اعلان
اللقطات نفسها تقريبا وإن كانت أشد قربا في بعض الزوايا، بسبب جرأة المصورين المرافقين لأبطال الكرك، الذين هبوا بعناد وإصرار منقطع النظير، للذود عن كرامة بلدهم، وتحرير الرهائن المحتجزين، رغم محاولات أجهزة الأمن كلها لإبعادهم عن قلب الحدث، حفاظا على حياتهم، ولتنفيذ خطتهم الأمنية بدون تدخلات لمواطنين عزل، لكنهم لم يلتفتوا إلا للحظة سمعوا فيها نداء القلعة الحزين، تخاف أن ينتقص من شموخها شعرة واحدة، بسبب مجموعة مغرر بهم، ظنوا أنهم يحاربون أيام صلاح الدين الأيوبي، وصدقوا أن القلعة ستحميهم “هم” من الموت أو الاعتقال.
من أكثر الصور والفيديوهات التي تناقلتها وسائل إعلام عربية وأجنبية، عن عملية الكرك، صور مواطني الكرك الأبطال، يتراكضون في دهاليز وعلى سلالم القلعة، معرضين أنفسهم وعن سبق إصرار وترصد للاستشهاد، في عملية غير مرسومة ومؤكد غير سليمة العواقب، بقدر ما كانت مندفعة وسريعة نابعة من نخوة هذا الشعب الذي ذاق من كأس الاستشهاد على أيدي الضلاليين الكثير من أبنائه، لكنه لم يلتفت أبدا لمصير أهله وأحبابه من بعده، وسطر عملا شجاعا غير مسبوق في الحقيقة، في مواجهته لقوى الشر، وكأن الفرصة قد واتته أخيرا للانتقام من مذكرات الحزن والقهر على شباب الوطن، الذين ارتقوا شهداء وهم يؤدون خدماتهم، وأوجعوا قلوب الناس حتى يومنا هذا.
تلك المشاهد المتناقلة في الإعلام، تم تسليط الضوء عليها لأنها فريدة من نوعها في تاريخ التعامل مع قضايا الإرهاب المماثلة، سواء في دول عربية أو غربية تعاني مر الجزع والموت وغياب الأمان. ففي العادة يتم إخلاء موقع الحادث وتأطيره بقوى الأمن المترصدة، للرد على المهاجمين أو الخاطفين مثلا.
وفي العادة أيضا يخلي المواطنون أنفسهم من نقاط الخطر تفاديا لحدوث مواجهات قاتلة، وهذا حق طبيعي ومفهوم جدا. إنما ما حصل حول قلعة الكرك وداخلها حتى، لم يتعرف عليه المشاهد قبل ذلك إلا في قصص مرابطي مدينة القدس على سبيل المثال، وهذا أمر أصبح هوية وشكلا وصوتا للشعب الفلسطيني مع عدو تاريخي.
سمعنا في الفيديوهات عبارات غريبة من نوعها، مثل الذي كان يبرر وجوده لقوى الأمن بأنه في الأصل “قناص” ويحاول أن يقنعهم أن لا مناص من وجوده اليوم بينهم، على اعتبار أن خبرته في القنص قد جاء وقتها الآن!
شاهدنا الذي كان يركض تحت قصف المجرمين حاملا روحه على كفه، يحاول أن ينقذ الرهائن المحتجزين الخائفين يردد مقولة ولا أجمل “مِحنا أحسن منكو”، في اختصار للغة والتعبير لا يمكن أن ينسى في القادم من الأيام، بل شخصيا أعتبرها من الجمل الخالدة التي ستعبر يوما عن نخوة وشجاعة وجبروت هذا الشعب.
لم يكن قليلا ما مر به الأردن أول من أمس، ليس قليلا بالمرة. والحزن الذي كان باديا على وجوه الناس في الشوارع والبيوت، وصوت الزفرات العالي المنحشر على النوافذ كضباب أبدي، تجربة قاسية مؤلمة مفرغة من الهواء لدرجة الاختناق. الأمر الوحيد الذي يعيد الأكسجين إلى رئاتنا المنكمشة اطمئنانا من نوع نادر، أن في الكرك مرابطين أشاوس، علموا الدنيا في ليلة واحدة معنى أن يكونوا هم القلعة العظيمة.