ضيوف الغد

المراجعة الذاتية خلال الأزمات

محمد أحمد الزواوي

بدأت تلوح في الأفق آمال السيطرة على انتشار الوباء، وشارفت معركتنا محلياً أن تحط أوزارها. واقترب الإعلان عن تقليص التعليمات السابقة المقيدة للحياة وبالتالي السماح التدريجي للقطاعات الحيوية بالعودة للنشاط تدريجياً. ولا بد لكل منا بأخذ الدروس من التجربة، لتقييم حدثٍ بجسامة ما تكابده الإنسانية اليوم.
لكن في البداية علينا أن نتذكر بأن الوباء عالمياً لم ينحسر بعد، ولا حتى شارف من قريبٍ أو بعيد على الانحسار. بالتالي، لا بد من الحرص على الاستمرار باتباع التوصيات ومواصلة التباعد الجسدي، على صعيد التنقل والاختلاط، بالإضافة الى النظافة الشخصية وغيرها. فرفع القيود لا يعني بأن الأمر قد انتهى، فإلى أن ينحسر الوباء على مستوى العالم، نحن ما زلنا غير بعيدين سوى بأخطاءٍ صغيرة عن العودة الى المربع الأول، ومعايير السلامة يفترض أصلاً اتباعها في الظروف العادية. وإن كان للوباء أي إيجابيات من الأساس، فتسليط الضوء على تلك المعايير حتماً أحد أهمها.
ومن الضروري التوقف لبرهة وإطلاق مراجعة عامة للذات، ومن ثم محاولة البناء على ذلك لتبني سلوكيات مغايرة، حتماً ستعود بالمنفعة في حال التعرض لكوارث أو أزمات عاتية أخرى في المستقبل. ومن أهمها، السلوك الاستهلاكي، فلا بد من تحكيم العقل وترشيد الاستهلاك لتجنب مزيد من الإهدار الذي رافق الهلع الذي ساد في مرحلة منع الانتشار. وبدلاً من ذلك، فلا بد من العزم ذاتياً على الالتزام بالتباعد الجسدي، لكن بشكل مترافق والتكافل الاجتماعي.
وبما أننا نبحر في رحلة تقصي وتحليل الدروس المستفادة من الأزمة، فعلينا إدراك الحقيقة الراسخة المتمثلة بأن الامور الطارئة على صعيد المجتمع، أو حتى الأفراد تأتي دوماً دون سابق إنذار، وكأنها تأتي لتختبر قدراتنا على التأقلم، وتقيم مهارات التخطيط الإستراتيجي الخاصة بألف باء استمرارية الحياة وتخطي العقبات، مما يؤطر لمزيد من الإدراك لضرورة الاستعداد والتخطيط الدائم لأصعب السيناريوهات، والذي لا يبنى إلا على قدرات رفيعة من استشراف المستقبل. وعليه، تتعاظم أهمية التوعية بأبجديات الصحة العامة، والاستثمار بالجانب الصحي الشخصي من ناحية الغذاء السليم، وممارسة الرياضة ونبذ العادات السيئة كالتدخين وغيرها.
وما دمنا لا نفتأ أن نلقي الضوء على الجانب الإنساني الذي يجابه تحديا هائلا، لا بد من تأطير بُعد توقفت البشرية منذ أن رسخت لمفهوم العولمة أن تلقي له بالاً، مع العلم بأنه وفي واقع الأمر هو ما قامت عليه العولمة بالأساس. فمفهوم “المصير الجماعي” و”التعايش” لمواجهة تحديات جماعية لا تفرق بين لغةٍ وأخرى، ذاك البعد ربما أول ما أسقطته عربة العولمة في رحلتها حول العالم عبر العقود الفائتة. ربما، بسبب عدم وقوع مواجهة سابقاً مع تحديات مماثلة تشكل تهديداً وجودياً. لكنه، ربما يكون أهم منحنيات الأزمة، فقد أدرك الجميع على الأغلب بأن لا أحد يعيش بالمجتمع لوحده، ولا بلد يتواجد بالعالم أيضاً منفرداً يهيمُ بالفراغ. بل على النقيض، فإن المصائر تترابط، وطرق الأقدار تلتقي.
في النهاية، فمن الضروري تقييم السلوكيات وقت الأزمات، حيث نَظَر كثيرٌ من المختصين سابقاً فيما يتعلق بتباين السلوك خلال الأزمات، والتي تتراوح ما بين التجمد، والهرب ومن الإنكار الى أخرى تقترب من المثالية والتي تكون مبنية على مسؤولية اجتماعية. فبناء نمط سلوكي شخصي وعكسه على صعيد مجتمعي أمرٌ لا بد بأن نخرج به من أزمة كهذه. من ناحية التكافل الاجتماعي، إلى التفاعل مع المحيط ومحاولة تقديم المساعدة بكافة أشكالها والتوظيف الأمثل لوسائل الاتصال، بالإضافة الى الدور الفاعل لقادة الرأي في تشكيل وعي جمعي، بما يتماهى والظروف الراهنة. كل هذا وغيره سيؤدي بالنهاية إلى غربلة السلوكيات الضارة مثل الإشاعات والإعلام الرديء والتمرد على التعليمات، وبدلاً منها البناء على سلوكيات ومبادرات إيجابية بالمقابل. فإرهاصات الأزمة التي تكابدها البشرية اليوم ربما ارتهنت بالوعي الجمعي أكثر حتى من شراسةِ العدو الخفي الذي لا يتوقف عن حصد الأرواح دون أن يقدر بأن يوقفه أحد.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock