المساحة الرمادية تتسع

مهم جدا البيان الصحفي الذي أصدره، أول من أمس، المركز الوطني لحقوق الإنسان، والمتعلق بالموازنة بين الحق في حرية التعبير والحفاظ عليه، وبين التجاوز على الأبجديات بحجة هذا الحق.اضافة اعلان
فهذه قضية صعبة، بحيث يلزمنا التوقف عندها ملياً، حتى لا تختلط الأوراق، فتضيع الحريات بدعوى الحفاظ على المصالح العامة، أو العكس تماما.
المركز يذكرنا بالأساسيات، حين يؤكد أن الحق في حرية التعبير يعد "الركيزة الأساسية لبناء أي مجتمع ديمقراطي حقيقي قائم على ضمان المشاركة العامة في القرارات التي تهم مصير الوطن والمواطن". وهو لا يخطئ بالعودة إلى التأكيد على مسلمات، من باب ضمان ممارسة حرية التعبير، بما "يدعم الاستقرار والأمن ويعزز شرعية السلطة ويدعم حيوية المجتمع وفاعليته".
الموقف الأهم في بيان المركز هو تنبيهه إلى "أن التوسع الملحوظ في محاسبة ومساءلة الأشخاص على أشكال مختلفة من التعبير عن الرأي والاحتجاج السلمي قد بلغ حداً أخذ يؤثر على حق المواطن في نقد السياسات العامة ومعارضتها". إذ هنا تحديداً تكمن المشكلة تماماً؛ كون خلط الأوراق في هذا الملف له نتائج خطيرة على حرية التعبير داخلياً، كما على صورة الأردن في الخارج.
وإذ تبرز، بالتالي، المصلحة الوطنية في إنهاء هذا الخلط، إلا أن الشروع بذلك والنجاح فيه يظل عملية حساسة، تحتاج عقلاً بارداً، يحيّد تأثير المواقف مسبقة وبالتالي تصفية الحسابات، فيما تنطلق هذه العملية من الاحترام الأكيد لحق الفرد في التعبير عن رأيه، كسمة مبدئية وقاعدة أساسية للنظام الديمقراطي الذي نسعى إليه، وتقدير حقيقي لمدى الأذى المتأتي من بعض الأفكار والمواقف.
هنا تحديدا يُبرز المركز أيضاً فكرة مهمة يتغاضى عنها كثير من الناس دفاعا عن الحريات، وهي أن للحرية حدوداً عندما يتعلق الأمر بحماية الأمن الوطني والنظام العام والأخلاق، كما حماية حقوق الأفراد الآخرين الشخصية وكرامتهم.
لكن في هذا السياق، تغدو النقطة المركزية متمثلة في سؤالين: ما هو تعريف المصلحة الوطنية والأمن الوطني؟ وأين تبدأ حرية التعبير وأين تنتهي؟ كون الإجابة غامضة ضبابية تحتمل التأويل، هو ما يجعل التجاوز على حرية التعبير مسألة متاحة بالاتجاهين؛ بإساءة استخدامها، أو بإساءة توظيف الحفاظ على الأمن الوطني ضدها!
إذن، سوء الفهم وخلط الأوراق لا يقتصر على الجانب الرسمي، بل ثمة خلط مروع أيضاً لدى العامة بين حرية التعبير من جهة، والتشهير والتجريح وسواهما من جهة أخرى؛ وأسوأ من ذلك تجاهل السلم المجتمعي، عن قصد أو غير قصد، لاسيما حين تكون القضايا العامة التي يتم التعليق عليها غاية في الحساسية، خصوصاً فيما يتصل بأمننا الداخلي. أما قصة العلاقات مع الأشقاء، فلا أظن أن تصريحا هنا أو تعليقا هناك يضر بها إن كانت متينة وراسخة.
بالنتيجة، فإن الوضوح القانوني هو السبيل الوحيد للتخلص من أخطر ما شهدناه خلال الفترة الماضية، والمتمثل في التوسع في التوقيف وتوجيه التهم بشكل غير مبرر أحيانا، وبما أدى بدوره، كما أشار المركز عن حق، إلى "توسيع قاعدة الأعمال المجرّمة بموجب هذه القوانين، وبالتالي وضع حرية التعبير والأمن الوطني في حالة تصادم غير مبررة".
لا يُقبل أبداً أن تكون الحاجة إلى حرية التعبير والتمسك بها وهي المقدسة، بوابة واسعة لنشر خطاب الكراهية والعنصرية، وبث الفتنة في المجتمع؛ فالإساءة للآخر والاستقواء عليه ورفضه هي، بشديد وضوح، ليست شكلاً من أشكال حرية التعبير. بالدرجة نفسها فإنه لا يقبل أيضا أن تكون ذريعة الأمن، بتعريفها الفضفاض، سبيلا للانقضاض على حرية التعبير الحقيقية.