المستوطنة وسيارة الإسعاف..!

في العاشر من آب (أغسطس) الماضي، زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس مخيم الجلزون للاجئين في الضفة. وقبل ذلك بيومين، كان رئيس وزراء العدو الصهيوني، بنيامين نتنياهو، قد زار مستوطنة "بيت إيل" غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة. وفي الزيارتين، ألقى كل من الزعيمين خطاباً في الحاضرين. وكما لاحظ الكاتب جيفري أورونسون، وعد عباس في خطابه أهل المخيم بسيارتي إسعاف وطابق في مركز المخيم لذوي الاحتياجات الخاصة. وفي المقابل، تحدث نتنياهو عن تدشينه فعلياً بناء 650 وحدة استيطانية جديدة في مستعمرة "بيت إيل".اضافة اعلان
يعلق أورنسون: "تعرضُ تقدمة عباس الهزيلة للاجئين الذين عانوا طويلا تناقضا محبطا مع المكافأة التي تمنحها دولة إسرائيل للمستوطنين الذين يقيمون عبر الشارع من مخيم الجلزون فحسب. ويبدو خطابه باهتاً أمام إنجازات نتنياهو المبنية بالطوب والإسمنت، والتي يراها سكان الجلزون والأماكن الأخرى في كل أنحاء الأراضي الفلسطينية وهي تتوسع وتتمدد أمام أعينهم".
بطبيعة الحال، يلخص هذان الواقعان المتعارضان ميزان الصراع الحالي في الأرض المحتلة. ثمة جانب تعوزه الأدوات للعمل، والذي ويكافح بعنت للتحرك في مساحة تضيق باطراد؛ وجانب يمتلك القوة والدعم والأدوات لترسيخ وجوده في الأرض التي احتلها في تجاهل تام للعدالة والإنسانية. ومع ذلك، ينخدع الكثيرون –أو يعلنون بمكر العارف المتواطئ- أن في فلسطين "قوتين"، أو حتى "دولتين" تتصارعان –أو تتفاوضان- من موقع النظراء.
في وعد رئيس الفلسطينيين بتقديم سيارتي إسعاف وطابق للمعاقين، على مسافة شارع من تدشين زعيم الصهاينة وحدات سكنية، مجاز يلخص الحالة. في جانب، ثمة سيارة الإسعاف المتحركة التي تحاول أن تنقذ حياة مهددة قد لا تنجو؛ ومركز للمعاقين يحاول أن يعوِّض فقدان الناس بعضا من طبيعتهم. ومعظم الحالات التي تتعامل معها سيارة الإسعاف ومركز المعاقين هي جرحى أصابهم رصاص العدو. وفي المقابل، هناك الوحدة السكنية الاستيطانية، المنزل، بما يعنيه المنزل من الاستقرار والثبات والشعور بالحماية والديمومة.
في خطابه في المستعمرة، قال نتنياهو لجمهوره: "لقد وعدنا ببناء مئات الوحدات السكنية. واليوم، نحن نفعل، لأننا وعدنا ولأن مهمتنا هي إقامة دولة إسرائيل في بلدنا، وتأمين سيادتنا على وطننا التاريخي". وبعد يومين، قال عباس لمستمعيه في الجلزون: "الشعب الفلسطيني سيبقى صامدا صابرا مكافحا مرابطا على أرضه، وكل حجر وكل بيت بنوه على أرضنا سيزول إلى مزابل التاريخ… نحن سنبقى في وطننا ولن يستطيع أحد أن يزحزحنا منه، والطارئ على هذه الأرض لا حق له بهذا البلد، ولذلك نقول لهم مهما أعلنوا عن بيوت هنا ومستوطنات هناك، ستزول جميعاً إن شاء الله، وستكون إلى مزابل التاريخ، وسيتذكرون أن هذه الأرض لأهلها، هذه الأرض لسكانها، هذه الأرض للكنعانيين الذين كانوا هنا قبل 5 آلاف سنة، ونحن الكنعانيون".
كما هو واضح، كان محتوى الخطابين، وقواعدهما النحوية، وعروضهما، كلها مشروطة بواقع الصراع. يقول نتنياهو بلهجة يقينية: "لقد وعدنا… واليوم، نفعل". ويقول عباس، "ستزول… ستكون… وسيتذكرون"، باعتبار ما قد يكون. وتذكِّرنا "السينات" قبل الفعل المضارع بالتركيب النحوي/الدلالي المألوف في خطابات الزعماء والمسؤولين العرب عن أشياء (س)تحدث –والتي قلما تحدُث في الحقيقة.
يتساءل أرونسون: "أي من الزعيمين لديه القدرة على الوفاء بالوعود التي يبذلها في تصريحاته، وأيهما ينفث الدخان فقط؟ من هو الذي يمكن أن نصدِّقه؟ نتنياهو أم عباس، أم أننا يجب أن لا نصدق أيا منهما"؟ ربما يكون الجواب أن صدق الوعد مشروط موضوعياً في هذه الحالة بامتلاك القدرة والأدوات للوفاء بالوعد. وعليه، تتفارق النتائج بين خطاب دخاني يتوزع في الهواء، وآخر يتحقق في شكل طوب وإسمنت.
من الأكيد أن الحالة الراهنة للنضال الفلسطيني لا يمكن أن تستمر. ومهما بدت الظروف مستحيلة، فإن إرادة الحياة ينبغي أن تدفع إلى اجتراح طرق للخروج من المأزق الذي لا يرحم. وثمة اختيارات في الحقيقة. مثلاً، هل كان وضع الفلسطينيين أسوأ من الآن عندما جعلوا كل فرد من المحتلين يتلفت حوله خوفاً لدى التواجد في موقف حافلات أو ارتياد مرقص أو مقهى، بسبب عملية عسكرية محتملة؟ أو، هل ينبغي تفكيك "السلطة" وإعادة كلفة الاحتلال للاحتلال وخوض نضال شعبي ضد الفصل العنصري؟ هل بالوسع ابتكار شيء يجعل منزل المستوطنة غير جذاب ولا مُستدام ؟ لا بد أن ذلك ممكن.