المصافحة والمصارحة والمسامحة: دعائم المصالحة الإنسانية

معاذ بني عامر

(1)
ذروة المصالحة بين الإنسان وأخيه الإنسان، نُتَفٌ صغيرة ومنمنمة، من مصافحات جسدية ومصارحات عقلية ومسامحات قلبية؛ معمار كبير ينبني من إسهامات إنسانية شتّى، تبتدئ لحظة الميلاد المادي، وتستمر مع الخلود المعنوي، بحيث تتحوّل اللبنة الذاتية إلى مدماك صالح في المعمار الجمعي العتيد.اضافة اعلان
(2)
أ- الجسد إذ يمدّ يده ويصافح، دونما توجّس طهراني، فإنه يكون قد خطا الخطوة الأولى باتجاه التصالح مع الجسد التكويني الآخر، الذكر بالنسبة للأنثى والأنثى بالنسبة للذكر. الجسد الذي لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا بتفاعله مع جسد آخر مُخالف له في الشحنة الكهربائية، فتلك الشرارة المُنبعثة من تصادم الأجساد لحظتذاك تصادماً ناعماً، هي شرارة رحمانية تَصِل بدل أن تقطع، تبني بدل أن تهدم.
ب- والعقل إذ يبسط معارفه ويتصارح مع معارف الآخرين، دونما "خوف داخلي" و"تخويف خارجي" من جهة، أو دونما شعور بالوضاعة والمهانة، أو الاستعلاء والامتلاء من جهة ثانية، فإنه يكون قد خطا الخطوة الأولى ناحية التصالح مع العقل التكويني الآخر: العقل الجمعي بإزاء العقل الفردي من جهة، والعقل الجمعي مع العقول الجمعية الأخرى من جهة ثانية.
ج- والقلب إذ يتجلّى رحمةً ويتسامح مع قلوب الآخرين، دونما إضمار لنوايا داخلية شريرة مُخالفة لظاهره المُسامح، وينزع عنه أحقاده وكراهياته، فإنه يكون قد خطا الخطوة الأولى باتجاه التصالح مع القلب التكويني الآخر: قلوب الآخرين، حتى أولئك الذين لا تربطهم به أي رابطة عقدية أو وطنية أو طائفية أو قومية أو أيديولوجية. ألا يكفيه خيط الإنسانية رابطاً بين القلوب، لحياكة كنزة المحبة وإلباسها لأجساد البردانين؟!
(3)
أ-في الحديث عن الوجود الطهراني للجسد، مقابل وجود مدنس لجسد آخر، سيخلق نوعاً من التنابذ، سيفضي حتماً إلى تذابح حضاري. فالجسد الذكوري إذ يعجز عن التصالح مع الجسد الأنثوي، ضمن شرطه الدنيوي القائم على التزاوج بين شحنتين كهربائيتين، وما يستتبع ذلك من تمثّلات حياتية من شأنها الإضرار بانقداح الشعلة الحضارية، من شأنه الإخلال بالمنظومة الحضارية برمّتها وخلخلتها من أساساتها ودفعها ناحية تنابذات، لا تفتأ تُناقش الجسد من زاوية ميتافيزيقية، لا تخدم الإنسان في وجوده الزماني.
ب- لغاية التأسيس تأسيساً سليماً لـ"مصارحات العقل" كمقدّمة ضرورية لإنجاز مشروع التصالح على المستوى العقلي، ينبغي بسط تجربة الخوف الداخلي والتخويف الخارجي، بين العقلين الفردي والجمعي على طاولة البحث، وفكّ الارتهان إلى هاتين المنظومتين المرعبتين، لأن الإنسان الخائف لن يستطيع البوح بما يعتمل في عقله من أسئلة طالما شعر برعب داخلي رُبِّي عليه بدءاً، ولا يفتأ يُعزّز بإرهاب خارجي، من شأنه الحطّ من قيمة الإبداع الفردي أمام مسلّمات العقل الجمعي. فداخل البنية الواحدة ينبغي التصارح بأريحية تامة، لكي لا يكون ثمة انضغاطات من شأنها إحداث انفجارات مدمرة ومهلكة، ولو بعد حين.
أيضاً، ينبغي التحرّر من ثنائية العقل الصغير والعقل الكبير، التي يمكن أن تحتكم إليها تفاعلات العقول الجمعية مع بعضها البعض. نعم، ثمة تفوّقات للعقل الغربي على سبيل المثال على العقل العربي في إنتاج المعرفة العلمية والفلسفية والأخلاقية، لكن ذلك لا يعني التعامل باستصغار مع العقل العربي وإكبار وإجلال مع العقل الغربي، بل ينبغي تفهّم أن من ينتجون المعرفة المتطورة ليسوا كائنات فضائية، بل هم كائنات من لحم ودم لا تختلف عنا في شيء. لكن تحطّم الذات تحطما سيكولوجياً سيدمرها وجودياً بالتأكيد، وأي استصغار لإمكانات الذات في مواجهة العقول الأخرى على المستوى الإبداعي سيجعل من مصارحاتها محض سراب مخادع، لا ينتج عنه إلا الوعي الزائف.
ج- وفي الحديث عن قلب لا يؤمن بالمحبة والخير للآخرين قبل الذات، سيولّد نوعاً من الأنانية ستفضي تراكماتها إلى قطيعة، ليس بين الناس فحسب، بل بين الإنسان وموجودات هذا الكون، إذ سيُقدم مصلحته الفردية على المصلحة الكلّية، دونما مراعاة للأولويات، مما يسبّب أضراراً وخيمة في النظام الكوني.
(4)
أ- في ملحمة جلجامش، كان ظهور الأنثى نقطة تحوّل إيجابي في المعمار النصي، إذ دقّ جرس الحضارة يوم أن ظهرت بوادر المحبة الجسدية بين أنكيدو وشمسة.
في النص القرآني ثمة تأكيد على قانون الزوجية والتلاقح الجسماني، كضرورة وجودية ولازمة بنائية في قضية الاستخلاف الإلهي.
في "ألف ليلة وليلة"، تخلخل البناء النصّي يوم أن تمكنت شهرزاد من إغواء شهريار ذهنياً وتدمير بنيته البربرية، وتحويله إلى كائن رحماني يعنى بالمتعة العقلية والحكايات اللذيذة كما يعنى بالمتعة الجنسية.
وفي الكاماسوترا الهندية، التصافح الجسماني بين الذكر والأنثى، علامة فارقة على المستوى الكوني.
ب- لم تكن الحضارة اليونانية القديمة وليدة العدَم، بل كانت نتيجة لتلاقح عقول فلاسفتها وأدبائها، مع حضارات شرقية قديمة؛ فهوميروس كان قد اطلع على ملحمة جلجامش واستفاد منها في صياغة ملحمتيه المشهورتين: الألياذة والأوديسة. كما أن الحضارة الرومانية كانت، بطريقة أو بأخرى، وليدة للحضارة اليونانية، وكان ثمة حضور كبير للفلسفة الأبيقورية والكلبية والأفلاطونية والأرسطية في حاضرة روما القديمة.
الحضارة الإسلامية كانت قد استفادت بدورها من الثقافات الشرقية القديمة والثقافة اليونانية، إلى حد وصلت معه إلى تفاعلات كبيرة وهائلة، لاسيما في حضور أفلاطون وأرسطو لدى كثير من مثقفي العالم الإسلامي إبان ذروته الحضارية واجتراحاته المعرفية المميزة.
ولقرون عدّة، كان ابن سينا وابن رشد في الحضارة الغربية بمثابة حبل المشيمة التي تربط الجنين الغربي المُتشكّل والرَحِم المعرفي الإسلامي الناضج والناجز حضارياً.
واليوم، يتم الحديث في العالم عن المعرفة الغربية كأنموذج يحتذى به، لغاية الارتقاء بالمعرفة الإنسانية إلى آفاق أوسع وأرحب.
ج- في إنجيل متّى جاء على لسان المسيح: "أي إنسان منكم، إذا سأله ابنه خبزاً، يُعطيه حجراً"؟
في الكنفوشيوسية ثمة مبدأ أساسي للحب: لا تفعل بالآخرين ما لا تود أن يفعلوه بك.
الناموس الأكبر عند ابن عربي هو ناموس الحب، كما صاغه في ترجمان الأشواق.
غاندي مثال بارز على التسامح الإنساني الكبير، حتى مع الأعداء والقتلة.
(5)
مسألة الخلاص التصالحي، عبر خلاصات التصافح بين الأجساد، والتصارح بين العقول، والتسامح بين القلوب، ليست بالمسألة الهينّة، التي يمكن الوصول إليها بيسر وسهولة؛ بل هي عمل مضن وشاق، يتحدّى الإنسان في مكوناته الأساسية، ويمنحها أفقاً رحمانياً في حال تم الوصول إليها، بحيث لا يعود المرء شيطاناً يمكنه أن يدمّر وجوده ويقضي على منجزاته الحضارية، التي كافح عشرات الآلاف من السنين للارتقاء والنهوض بها.