المعرفة والمهارة والعادة

 

عندما نتحدث عن المعرفة، علينا أن نفرّق -سلفاً- بين المعرفة (Epistemology) كأحد مواضيع الفلسفة؛ حيث تُدرس مصادرها وطبيعتها أو ماهيتها أو مداها وحدودها... وهي ليست موضوعاً هنا؛ وبين المعرفة اليومية (Know – how) التي نتحدث عنها في التعليم والعلوم والعمل والأداء.

اضافة اعلان

لقد كتبت كثيراً عن العلاقة بين البيانات (Data) والمعلومات (Information) وهي أقل منها، والمعرفة (Know – how) وهي أقل من سابقتها، والحكمة (Wisdom) وهي الأقل، وتصورتها كهرم قاعدته البيانات، ومدماكه الأول هو المعلومات، فالمعرفة، فالحكمة.

البيانات (Data) تبقى بدون معنى قبل ترتيبها وتصنيفها أو جدولتها، فبعد ذلك تتحول إلى معلومات؛ أي تصبح مفهومة ويمكن اتخاذ قرار أو قرارات في ضوئها، وإلا إن بقيت في ملف أو في كتاب أو في قرص... فإنها عندئذ تكون أشبه بطاقة الوضع (Potencial) لكنها بالقرار المستمد منها والمبني بدقة عليها تتحول إلى معرفة؛ أي إلى ما يشبه طاقة الحركة (Kinetic energy). وباكتساب الكثير من المعارف قد تتحول المعرفة بمرور الزمن إلى حكمة (Wisdom)؛ أي إلى نور (Light) يملكه القليل من الناس.

أي أن المعرفة (Know – how) مهارة (Skill)؛ أي سلوك مادي/فيزيقي، أو لفظي/ لغوي/ منظّم يتكون بالتجربة والخطأ، أو بالتعلّم والتدرب، ويكون موجهاً لتحقيق هدف معين، فالبلّيط، أو القصّير، أو النجّار، أو الحدّاد، أو الصحّي أو السائق... أو الطبيب الجراح ماهرون معرفياً كلٌّ في عمله، ولكنهم يقومون به بأكبر قدرٍ من الانتباه والتفكير.

وكمثال آخر على ذلك أقول: إن المدرسة التي تعلّم الأطفال/ التلاميذ، مبادئ الحساب كمعلومات تجعلهم يعجزون عن (معرفة/ قياس) عرض الغرفة أو طولها، أو تعلّمهم قواعد اللغة كمعلومات ويمهرون في الإعراب، ولكنهم قد لا يستطيعون قول أو كتابة جملة، أو فقرة فصيحة مفيدة، بمعنى أنهم لم يملكوا المهارة المعرفية اللازمة لذلك.

وقد تعلم الجامعة الطلبة في كلية العلوم عن كيفية صنع القنبلة الذرية؛ أي تزودهم بالمعلومات اللازمة لصنعها، لكنها ولا هم يعرفون صناعتها بالفعل، لأن المعلومات لم تتحول إلى معرفة أو مهارة عندهما، وهكذا.

ومن هنا ولهذا، يجب أن توصف وزارات التربية والتعليم العام والعالي بوزارات المعلومات، وأن يغير هذا الاسم لتصبح وزارات معارف عندما تنجح وينجح تلاميذها وطلبتها في تحويل المعلومات إلى معارف، فمن هنا نبدأ ومن هنا تنطلق الحضارة بعناصرها الثقافية والمادية.

أما العادة (Habit) فنمط متعلّم من الاستجابة، يتكرر (النمط) أتوماتيكياً في أحوال معينة وبأقل درجة من الجهد أو التفكير. ويصبح المرء أسير عاداته بالإدمان. أما المعرفة فتصبح أسيرة صاحبها الذي يقودها ويصقلها مع كل تطور أو حاجة للصقل نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي. لعله صار واضحاً للقارئ العزيز الفرق الكبير بين المعرفة كمهارة وبين العادة كتكرار.

أما الحكمة فهي النور الذي يسعى كل امرئ لامتلاكه والاستنارة به. إن الفلسفة هي في الأصل محبة الحكمة؛ أي المعرفة، وهي هنا تعني تقدير الأمور تقديراً سليماً. إنها حصافة الرأي وسداده وهي مهارة معرفية عليا لا يملكها إلا القلة، وإن المجتمع قد ينهار بغيابها.