المقاومة بثلاثة أسلحة ناعمة

في ظلال الذكرى الأربعين ليوم الأرض، الذي كان بحق يوما مجيدا من أيام الشعب الفلسطيني، المبتكر لأساليب مقاومته الناجعة؛ وفي غمرة هبة شبابية تتواصل منذ ستة أشهر بلا كلل؛ ومع انغلاق الدروب أمام خيار المقاومة المسلحة والحلول السلمية، وانقضاء زمن الحروب العربية الإسرائيلية، أملت ضرورات إدامة الاشتباك مع الاحتلال بكل أشكال المقاومة المتاحة، إبداع أدوات كفاحية جديدة، وابتكار وسائل مواجهة بديلة، تعتمد على الذات، تلائم مقتضيات المرحلة، وتستلهم دروس التجرية المفيدة.اضافة اعلان
ومن حسن الحظ، أن الممكنات المتاحة في هذه الآونة، التي أصبح فيها العالم مجرد قرية كونية، يسرت للمطالبين بالحرية امتلاك أسلحة مقاومة ناعمة لا سابق لها في تاريخ حركات التحرر الوطني، ثلاثة منها قيد الاستخدام حاليا، وكلها مشروعة ومتوافقة مع قواعد اللعبة الدولية. وهي أدوات لا تمتلك إسرائيل إزاءها أسلحة مضادة، بما في ذلك الطائرات الحديثة، والدبابات عديمة الفائدة على هذا الصعيد، الذي يفتقد فيه أرباب الحروب الكلاسيكية تفوقهم النوعي وكامل ميزاتهم النسبية.
في سياق هذه التطورات المواتية، أصبح لدى الشعب الفلسطيني، الذي خسر أداة الكفاح المسلح، موضوعيا (لأسباب يطول شرحها)، ثلاث أدوات كفاحية ناعمة، لم يسبق له أن اختبر فاعليتها من قبل، كلها تصب في خدمة مقاومته الشعبية متعددة الأشكال. أولاها، عولمة المقاطعة الاقتصادية، المعرفة باسم "BDS". والثانية، ساحة القضاء الدولي في كل من روما ولاهاي. والثالثة، هي الكاميرا، التي أثبتت التجربة المعاشة أنها إحدى أنجع أدوات الكفاح ضد الاحتلال، وربما أكثرها مضاء.
ومع أن المؤتمر الذي عقدته صحيفة "يديعوت أحرنوت"، قبل أيام قليلة، بحضور أركان الدولة العبرية، للحد من مفاعيل حركة المقاطعة المتصاعدة لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية، يغري بالحديث عن فاعلية هذا السلاح المتزايد التأثيرعلى مكانة إسرائيل وعلى صورتها الدولية، إلا أننا سنكرس السطور المتبقية من هذه الإطلالة للحديث عن أهمية سلاح الكاميرا، في عصر الهواتف المحمولة، في عزل إسرائيل سياسيا، وتجريدها من كل ادعاءاتها الأخلاقية، ومن مزاعم انتسابها لمنظومة الدول الحضارية.
ولعل واقعة إعدام الشاب الجريح عبدالفتاح الشريف في الخليل مؤخرا، بدم بارد، وما وثقته كاميرا ناشط حقوقي من منظمة "بيتسيلم"، أحدث دليل على مدى نجاعة هذا السلاح الناعم في المعركة الراهنة ضد الاحتلال. وهو أمر عكسته السجالات الصاخبة داخل المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل، وأظهرته بقوة الجدالات الحادة في الصحف العبرية طوال الأيام الماضية؛ بين من يدافع عن الجندي القاتل ويصفه كبطل، وبين من يخشى من الضرر الذي سيلحق بصورة إسرائيل الخارجية، وسمعة جيشها "الأخلاقية".
فقد كانت الكاميرا أبلغ شاهد على ما جرى قرب حي تل الرميدة الاستيطاني في الخليل. وكان توثيقها بالصوت والصورة للمشاهد المأخوذة من عين المكان أكثر أهمية من كل روايات شهود العيان وتقارير الصحافة المكتوبة، حتى وإن كانت من مصادر غربية تتسم بالموضوعية؛ إذ قطعت الصورة قول كل خطيب، وتولت من دون شرح مطول بيان الحقيقة كما هي بلا زيادة، الأمر الذي هز صورة إسرائيل، ليس في مرآة ذاتها، وإنما أمام العالم الخارجي الذي تزعم الانتساب إلى قيمه الأخلاقية ومعاييره الديمقراطية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يقارف فيها الجيش مدعي طهارة السلاح مثل هذه الجريمة الموصوفة، وهناك عدد لا يحصى من الجرائم الخسيسة المماثلة، لم يتم تصويرها، جرت على مدى العقود الماضية. إلا أن هذه الواقعة المسجلة بالكاميرا، نجحت أكثر من غيرها في تهشيم الصورة الإسرائيلية، وتقويض الخطاب الرائج في الغرب، حتى وقت قريب، عن مظلومية الدولة التي تدافع عن نفسها في مواجه إرهاب "التطرف" الفلسطيني و"البربرية الإسلامية المتوحشة".
صحيح أن السجالات الإسرائيلية المحتدمة الآن لا تدور حول فظاعة الجريمة، وإنما عن الضرر الذي ألحقته بصورة الدولة العبرية، إلا أن هذه الواقعة غير قابلة للإنكار، ولا يمكن تحميلها للضحية هذه المرة. وهي قد تسهم، إلى جانب صور سابقة، في ردع إسرائيل عن ارتكاب مثيلات لها، إذا ما ظلت الكاميرا حاضرة، كسلاح ناعم من أسلحة المقاومة الشعبية.