"الملف صفر" ومستقبل البحث الأكاديمي

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، عرض علي صديق أن أشاركه في كتابة رسالة ماجستير حول الشاعر الراحل محمود درويش، وأخبرني أنها مطلوبة منه لأحد الطلبة الذي سيدفع جيدا في مقابلها.اضافة اعلان
بالتأكيد رفضت. لكن الأمر فتح عيني على «سوق» كبيرة متأسسة بالقرب من الجامعة الأردنية حينها، لا تختص بها المكتبات الكثيرة المنتشرة في المكان فحسب، بل وأيضا عشرات الأشخاص الذين يعملون فرادى واعتادوا أن يجلسوا في المقاهي والمطاعم والنوادي الثقافية والرياضية في المنطقة.
قبل أيام، تذكرت الموضوع من جديد، على ضوء البرنامج المهم «الملف صفر» الذي قدمه التلفزيون الأردني للزميل المبدع محمد الجغبير، والذي استغرق إنجازه وقتا طويلا، وتناول فيه ظاهرة تجارة الرسائل والأبحاث الجامعية.
بجرأة كبيرة، اقتحم الجغبير عالم هذه التجارة، كاشفا عن مافيات خطيرة تتحكم بمفاصل «البحوث الأكاديمية» وتنجزها نيابة عن بليدين وكسالى امتلكوا المال بدلا من الضمير، وبالتأكيد بدلا من العلم والفهم والمعرفة.
يطيب لنا أن نظن أن هذه «التجارة» هي مخفية عن أعين السلطات؛ سواء الأكاديمية أو الرقابية، لكن الأمر ليس كذلك، فالظاهرة معروفة لدى الدوائر الأكاديمية، ولا أدري بالضبط ما هي الآليات التي تتبعها من أجل محاصرتها، والكشف عمن يرتكبها من الطلبة، للتخفيف بالتالي من آثارها الكارثية على المجتمع الأكاديمي والبحثي.
كما أنها معروفة لدى الجهات الرقابية الأخرى، فالكتابة حول الظاهرة، وإثارة اللغط حولها موجودة ومنذ أكثر من عقدين، إضافة إلى أن «حيتان الصنعة» معروفون أيضا، ويمكن تتبعهم ومعرفة زبائنهم، وبذلك يمكن أن يكون من السهل إيقاف عملهم المدمر.
المسألة خطيرة جدا، ولا يمكن لنا أن نظل متواطئين على السكوت عنها، فهي تدمر سمعة البحث الأكاديمي برمته، فما هو موجود للبيع لدى هؤلاء يتسلسل من البحوث المطلوبة خلال دراسات البكالوريوس، إلى الرسائل الأكاديمية من ماجستير ودكتوراه.
اليوم، يخطر في بالنا أن نتساءل عن أعداد الطلبة الذين «أنجزوا مهمتهم» على هذه الشاكلة، فنالوا شهادات ملطخة بالعار، كما يطيب لنا أن نتساءل عن عشرات المؤسسات التي ابتليت بمثل هؤلاء الخريجين الذين لا بد وأنهم أسهموا في تراجع مؤشرات أدائها، وربما في خرابها.
قبل سنوات قليلة، أثيرت قضية أكاديميين يحصلون على شهادات الماجستير والدكتوراه بـ «سهولة كبيرة» من بعض البلدان، وحتى شهادة الثانوية العامة من تركيا وغيرها. بعضهم لم تطأ قدمه تلك البلاد، وإنما كل ما في الأمر أنه امتلك «الثمن المناسب» لتلك الشهادة.
ورغم علمنا بوجود مثل هذه التجاوزات الخطيرة لدينا، إلا أننا كنا نشعر ببعض الطمأنينة، كون الأمر لا يشكل ظاهرة عندنا، وأن التجاوزات ستظل محدودة، يمارسها «تنابلة» غير قادرين على امتلاك مهارات البحث والتقصي والتفكير الناقد، وتبيان وجهات النظر المختلفة، ووضعها في بحث ما، أو رسالة أكاديمية.
لكن، يبدو أن تفكيرنا لم يكن صائبا في هذا الأمر، إذ إن المسألة تتوسع، وتأخذ بالانتشار السريع، ليندرج فيها طلبة من أكثر من جامعة، وسط تراخ من المؤسسة الأكاديمية، وعدم اتخاذها إجراءات صارمة تسهم في الحد من الأمر، أو إنهائه مرة وإلى الأبد.
نحن متأكدون أن جامعاتنا، كمؤسسات، غير متورطة بهذا العمل، اللاأخلاقي، فهي إلى اليوم ما تزال مؤسسات رصينة تخضع للضوابط العلمية والأخلاقية التي تم تأسيسها عليها. لكن المحبط في الأمر هو ما يدور من أحاديث حول تورط أكاديميين في هذه «التجارة الفاسدة»، والذين لم يتورعوا عن أن يبيعوا ضمائرهم وشرفهم الأكاديمي للشيطان لقاء حفنة دنانير، ليسهموا بذلك في قتل الإبداع والبحث الأكاديمي، ويخرجوا أجيالا من عديمي الفائدة قلت هي مجرد أحاديث، ونحن أيضا لا نريد أن تكون صحيحة.