الملك يعرض مسودة عقد جديد

الحياة السياسية في الأردن، ومنذ تحولات الربيع العربي، تسير في إيقاع سريع؛ هي في الحقيقة أقرب إلى طاحونة تبتلع الأفكار والخطط والاقتراحات بسرعة كبيرة، ولا تميز بين فكرة قيمة أو رديئة. أول من أمس، طرح الملك عبدالله الثاني ورقة ثالثة للنقاش العام. وما يميز هذه الورقة عن سابقتيها أنها تقدم تصورات تفصيلية قيّمة وعميقة لدور مؤسسات الدولة والمجتمع والأحزاب والأفراد، في مرحلة التحول نحو "ملكية دستورية هاشمية"، وبناء دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ تداول السلطة عبر صيغة الحكومات البرلمانية.اضافة اعلان
النقاش العام للأوراق بمجملها، على أهميته، لا يكفي. ففي حالات سابقة، كانت النخب السياسية والإعلامية تحتفي بالأفكار المطروحة، وتشبعها مقالات وندوات، وبعد فترة وجيزة تركن على الرف، وتسقط في الطاحونة، بانتظار فكرة جديدة تلقى المصير ذاته.
هذه المرة لا نملك فرصا جديدة لنضيعها، ليس لأن إصلاح النظام السياسي حاجة وطنية ملحة؛ المخاطر من حولنا تتعاظم، ثلاث دول جوار مهددة بالحروب الأهلية والتقسيم على وقع الاقتتال المميت في سورية، السيناريوهات المتداولة خلف الكواليس لتسوية القضية الفلسطينية تضعنا في مواجهة التحدي. صورة المنطقة كلها ستتغير في السنوات المقبلة؛ دول كبرى مرشحة للتحول إلى كيانات فاشلة، وقليلة هي الدول التي ستنجو من "التسونامي" القادم. ولكي نكون من بين الناجين، يتعين علينا العمل بسرعة وكفاءة لإعادة بناء المنظومة السياسية والاقتصادية للدولة وفق أسس جديدة، نجدها اليوم متوفرة في صلب الرؤية الملكية الواردة في الأوراق النقاشية.
السؤال: كيف يمكن أن تتحول الأفكار الملكية إلى خطط عمل، تنخرط الدولة بمؤسساتها، والمجتمع بمكوناته، في عملية شاملة لتحقيقها؟
هي الآن أفكار تحتاج إلى مزيد من الإثراء بداية، وذلك عن طريق الحوار الوطني. لكن حتى تصبح خططا، فإن ذلك يتطلب من ممثلي مؤسسات الدولة والمجتمع المدني أن يجلسوا معا لتعريف المفاهيم على نحو محدد: الملكية الدستورية، والحكومة البرلمانية، والأحزاب السياسية البرامجية، وغيرها. ومن ثم البحث في متطلبات تحقيق هذه الأهداف، سواء أكان ذلك في مجال التشريعات أم السياسات، وكل ما يتصل بها من جدل حول هوية الدولة، والعلاقة الأردنية-الفلسطينية في بعديها الداخلي والخارجي، لأننا إزاء تحديات معقدة ومركبة. فالملكية الدستورية مفهوم يحتمل أكثر من تفسير وتوظيف، ولعل الكثيرين يتذكرون الجدل الذي ثار حول المفهوم منذ طرحه قبل سنوات.
التصورات الواردة في الورقة الثالثة تستجيب، إلى حد كبير، للمطالب المتنامية في السنتين الماضيتين بضرورة تجديد العقد الاجتماعي بين النظام والشعب. وأعتقد أن مضامينها تلبي جوهر ما تطالب به قوى المعارضة والحركات السياسية والاجتماعية الصاعدة في أوساط الأردنيين من مختلف الأصول والمشارب.
الملك بوصفه رأس الدولة ورمز النظام الملكي، يطرح في ورقته الثالثة ما يمكن تسميته بمسودة لعقد جديد على الطرف الثاني "الشعب بقواه الحية"، تؤسس لمرحلة جديدة في عمر الدولة الأردنية. وأظنها لحظة تاريخية يجب أن لا نفوتها بالمزايدات والاستعراض السياسي. باختصار، هناك فرصة لبلورة طبعة جديدة من الميثاق الوطني، تدخل معه البلاد عصرا سياسيا جديدا؛ عصر الملكية الدستورية. ألم يكن هذا هو المطلب؟