المناهج المدرسية.. بين تشخيص الأزمة و"تطنيشها"!

على مدى الأشهر القليلة الماضية، شكلت المساهمات التربوية والفكرية، للأستاذ حسني عايش والدكتور ذوقان عبيدات، التي تحرص "الغد" على نشرها بصورة دورية، حول المناهج المدرسية، إضافة نوعية ومهمة، للنقاش العام حول قضية الساعة في الساحة العربية والأردنية، وهي تقدم خطاب التطرف الفكري والديني، وانتشاره في مسامات وتفاصيل حياتنا اليومية، وتراجع مساحات الإبداع والتفكير الحر. اضافة اعلان
لا شك في أن مفكرين وتربويين وأكاديميين، قدموا إسهامات كبيرة في هذا المجال، وتزخر المكتبة العربية بمؤلفات ودراسات مهمة، تناقش قضايا التربية والتعليم والفكر والتطرف والتنشئة الاجتماعية، وما يعتورها من إشكالات واختلالات، تنتج في المحصلة مجتمعات عربية، يطغى فيها الإقصاء للآخر، والتطرف، والعيش في الماضي، وانغلاق الأفق إنسانيا وفكريا، والتراجع علميا وحضاريا.
كل ذلك وأكثر، تحفل بها مؤلفات مفكرين عرب كبار، لكنها، وللأسف، تبقى حبيسة حلقة صغيرة من المثقفين والمهتمين والمنتديات النخبوية، ولا تتسرب بتأثيراتها وتنويراتها إلى مفاصل المجتمعات العربية، فيما تطغى الثقافة السائدة، التي تشكلها منابر الكثير من الجهلة، ومؤلفات تجهيل، تملأ رفوف المكتبات والفضاء الإلكتروني، وتبثها قنوات فضائية باتت تتناسل كالسرطان، لتصنع جهلا وتخلفا وانغلاقا عاما، يغلف بخطاب ديني وتراثي قاصر وسطحي، يحرص أصحابه على إقامة العداء بينه وبين العقل والإنسانية.
نقول، إن دراسات وكتب التنوير والفكر المحترم، موجودة، وثمة إرث عظيم قدمه مفكرون وباحثون عرب في هذا المجال، لكن أهمية ما يقدمه اليوم الأستاذان عايش وعبيدات، عبر سلسلة مقالاتهما ودراساتهما، هو تعميم خلاصات ونظريات التربية الحديثة، وأعقد القضايا الفكرية والتربوية، بصورة سلسة غير معقدة، وأسلوب جزل وبسيط في ذات الآن، وعبر وسيلة تواصل (الصحيفة)، لا تقتصر قراءتها وتأثيراتها على شريحة النخب الفكرية والمثقفة، أو المختصين فقط، بل تذهب بزبدتها الفكرية والعلمية إلى كل الشرائح.
يصعب، في هذه العجالة، إعادة الحديث عن كل المحاور والأنساق التي وردت في المقالات والدراسات المذكورة، للباحثين، لكن يمكن القول إنها تذهب في التشخيص والتحليل إلى عمق أزمة المناهج، والأهم أزمة القائمين عليها. ما أبدع فيه الباحثان هو نقل المصطلحات والمفاهيم الكبيرة والمعقدة، إلى القارئ، باختلاف مستوياته، بسلاسة لا تخل بالعمق والإحاطة العلمية بالمشكلة وملابساتها.
الحديث عن منهج التلقين، وأحادية الفكر، ونبذ التحليل والإبداع، وحصر الطالب في قوالب فكرية واجتماعية وثقافية منغلقة ثابتة، كلها قضايا يترجمها الباحثان عبر مقالاتهما ودراساتهما، بأسلوب مبسط وسلس ومفيد، يثير من النقاش والأسئلة الكثير لدى القارئ والمهتم، ويفتح الباب بقوة للتغيير وتجاوز الاختلالات المستحكمة في المناهج.
المؤسف، أنه ورغم كل ما أثارته وتثيره مقالات ودراسات الأستاذين عايش وعبيدات من نقاشات واهتمام في الأوساط التربوية والسياسية والإعلامية، فإن صاحب العلاقة الرئيسي والأول بهذا المجال، مايزال غائبا، أو بالأحرى مغيبا لنفسه، عن هذه المساحة الواسعة والمهمة للنقاش!
ونقصد هنا وزير التربية والتعليم ومجلس التربية، المعنيين والمسؤولين أساسا عن وضع المناهج والكتب المدرسية. وباستثناء رد مباشر ويتيم من قبل مديرية المناهج على أول دراسة في المناهج نشرتها "الغد" للدكتور عبيدات، وحملت من الهجوم الشخصي على الباحث الكثير، بعيدا عن مناقشة ما ورد في الدراسة، فإن تفاعل الوزارة والوزير، على الأقل مباشرة، مع هذه الطروحات والدراسات بقي غائبا، إن لم نقل إن الوزير حرص على اعتماد سياسة "التطنيش" السلبية تجاه هذه القضية الحساسة والخطيرة.
ما يطرح من أفكار وتحليلات علمية للمناهج المدرسية وأساليب التعليم، ليست قضية هامشية أو ترفيها، لا تستحق النقاش والالتفات من قبل الوزارة والوزير. ولا يمكن لهما أن يعتبراها تصيدا سياسيا، وتقليلا من "إنجازات" الوزارة في مجالات أخرى. لا يمكن اعتبار ذلك إلا تهربا من المسؤولية، أو تمسكا بالمناهج والكتب المدرسية، وبالفلسفة التي تقف وراءها منذ أكثر من ثلاثة عقود، والتي تعمل مقالات ودراسات الباحثين عايش وعبيدات على تعريتها وتفكيك اختلالاتها الجوهرية!