المواطنة.. على طريقة ميسون

الوطن ليس شخصا ولا عائلة، ولا طبقة اجتماعية. وهو ليس عشيرة أو تجمع عشائر. والوطن ليس راتبا شهريا ولا بعثة دراسية، أو مغلفا يأتيك كل بضعة أشهر. وهو ليس مقعدا نيابيا أو وظيفة عليا أو أخرى غير مصنفة... الوطن أكثر من ذلك بكثير.اضافة اعلان
البعض يظن أنه هو الوطن، أو الوحيد الذي يحبه، فينكر على غيره أن ينتمي أو يعبر إلا بالطريقة التي يراها. في الوطن طيور وأفاع وغزلان ووحوش وثعالب تحبه كما نحبه، ولا ترضى عنه بديلا.على أرضه ينبت الزيتون البلدي والنبالي والخوخ والرمان والسنديان والطرفا والعرعر، كما العنب والقيسوم والدفلى والزعتر، وعلى جباله قلاع بناها المحاربون والمدافعون في حقب مختلفة قبل وبعد عودة ميسون الكلبية من الشام وهي تعبر عن حنينها ووطنيتها التي لا تضاهى بقولها: "لبيت تخفق الأرياح فيه... أحب إلي من قصر منيف/ ولبس عباءة وتقر عيني... أحب إلي من لبس الشفوف/ وكلب ينبح الطراق دوني... أحب إلي من قط أليف...".
الوطن حالة استغراق وهوس وتوحد تراكمية مع الأرض والماء والهواء والفضاء، وتاريخ المكان وما فيه من ذاكرة وروح، يتسلل للأبناء من الآباء والأجداد، تحمله الحكايات والأساطير والأشعار، وروايات يحكيها الأهل لأنفسهم عن أنفسهم، فتنسج الود والعشق والإعجاب بعشرات الأبطال الذين سطروا أسماءهم على جدرانه، حتى إن لم نعرفهم.
للوطن رائحة وروح؛ هي الرائحة نفسها التي عرفها الملايين من أبنائه الذين عاشوا على أرضه وبنوه قبلنا، والروح الجماعية التي دفعتهم ليزرعوا ويشيدوا ويدافعوا ويعلموا ويخترعوا ويكتشفوا ويسودوا، قبل أن نظهر بكثير. في مقابر البلدات والمدن القديمة والخرب التي يزيد عددها على أعداد المدن والقرى التي نعرفها اليوم، شواهد على المارين من هنا، والذين كانوا مثلما نحن اليوم، وسنكون مثلما هم بعد حين. وفي تاريخنا رجال ونساء شكلت أفعالهم ترجمة لمعاني الشجاعة والصدق والنبل والنزاهة، فأحببناهم من دون أن نلقاهم، واستوطنوا لاوعينا الجمعي.
صحيح أن الأرقام ضرورية لتسيير وتيسير معاملات الصحة والتعليم والعمل والسفر والأحوال المدنية هذه الأيام، لكن الأرقام الوطنية والسجلات المدنية وجوازات السفر، وكل الوثائق الثبوتية، لا تُدخل إلى قلبك ووجدانك الحس الذي يجعلك تتوحد مع المكان ومكوناته بعلاقة يصعب معها الفصل بينك وبين المكان، وكل ما فيه من مفردات ووعي وتفاصيل.
الكثير من الآباء الذين أحبوا الأرض، كما أمهاتنا والأولاد، فحرثوها وزرعوها وفهموا إيقاعها، لم تكن لديهم بطاقات تحمل أرقاما وطنية، ولم يستصدروا جوازات سفر، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى أذون للعيش والولادة والموت والتعليم والسفر، فهم لم يسافروا خارج بلداتهم وديارهم أصلا.
الأردن ليس كيانا هشا أو اسما يمكن أن ينكمش أو يتلاشى نتيجة لحديث شخص هنا أو جماعة هناك، فقد كان الأردن موطنا لأجدادنا ومصدرا لغذائنا ومرقدا لأجساد من سبقونا.. لمناخ الأردن بصمات على ألوان بشرتنا وفتحات أنوفنا وطول قاماتنا... للوطن هوية تجمعنا على حبه، وسمات يُعرف بها ونعرفها. الأردني صبور كريم يقبل بالقليل ويعطي الكثير، يجيد دور المضيف أكثر من الضيف. ومن لا يحمل سمات الأردني يصعب عليه أن يتكيف، حتى وإن حمل كل الأرقام والوثائق، وحصل على كل العطايا والامتيازات. المواطنة أن يسكنك الوطن وتسكنه. فهي علاقة حب وتعلق وجداني لا يعتريها التصنع أو التشدق أو النفاق، ترى أثرها على خلق وسلوك وشعور المواطنين من دون شرح أو استعراض؛ فالمواطن قطعة من الوطن يعطي له ويأخذ منه من دون توسط أو وكالة أو رياء، يحبه كيفما شاء من دون منة أو اشتراط، ويشتد التعلق كلما مالت الأحوال.