"المَرْبوعين"

لم أعترض على أيّ خلل "مصنعيّ" في جسدي، فكلُّ العيوب اعتنيتُ بها كما يعتني متحف مصريّ ببقايا أنف فرعونيّ، بل إنّ عيباً خَلقياً بارزاً في وجهي أصنعُ له الآن كتاباً خالياً من الخجل. إذاً أنا متصالح و"مُطبّعٌ" مع نفسي، وعندما أقترب من الأسف أقول في شبه الخشوع: "اللهمّ لا اعتراض". لكنّ لي انكسارات وهزائم تسبّب بها عدم التكافؤ، تجعلني أتمنّى لو كنتُ طويلاً، ولي ظلٌّ هائلٌ يُحكى عنه في أدب الأطفال والخُرافة. فأنا رجلٌ مربوعٌ، ولي تعريف لغويٌّ صيغَ بعناية وأدب شديد، يُعرّفني ضمن فصيلة "المَرْبوعين"، بأنّي "لستُ قصيراً بائن القِصَر، ولستُ طويلاً مفرطاً في الطول، بل معتدل القامة"، والاعتدال تشجّع الحكومات عليه بوصفه "ليونة لا تطرُّفَ فيها"، لكنّ لي انكسارات وهزائم كانت تستوجب أنْ أكون مفرط الطول، وكنتُ مستعداً للتخلّي عن أمجاد منخفضة روّجتها الأمثال الشعبية بأنّي مَكير ومن سلالة نابوليون، والطول لعود الخشب، والقِصر لسبيكة الذهب.. مقابل أنْ أطولَ العنب! ولا مرّة أحنيتُ رأسي لتفادي جهاز التلفزيون المعلّق. ليس هذا بالطبع النقص الوحيد الذي أشعرُ به لأنّي دون 170 سم، لكنّي أمرُّ عشرات المرّات في اليوم أسفلَ التلفزيون من دون أنْ أرتطم به، أو أخشى. حتى صديقتي ولا مرّة نبّهتني وصرخت في هلع أُمٍّ لم تلدني أنْ أحذرْ، فأنا أمشي بأمان كلّي، كغلام يتطاولُ ليصيب حبل الغسيل. أدخل من الأبواب، أخرجُ منها، ولا أترك أثراً لكائنٍ دخل من هنا أو خرج. "الرجل الطويلُ هو المفضّلُ لدى النساء".. ثمّ تذكر الدراسة المنتشرة بلا خجل على الانترنت أسباباً أتحرّجُ من ذكرها. ولأنّي "لستُ قصيراً بائن القِصَر، ولستُ طويلاً مفرطاً في الطول"، فإنّ النساء اللاتي يزيد طولهن على 170 سم، من فصيلة السيّدة نيكول كيدمان، محرّمات عليّ الحُرمة المؤبّدة، بل إنّ الحبّ معهنّ من طرف واحد هو "الحبُّ المستحيل"، لأنّ طرفي عندها لن يكون مرئياً، وهكذا لم يبق من ضمن خياراتي سوى التي تريدُ السّتْر! نعم لديّ "حقدٌ طوليٌّ" على كلّ من أضطرّ للوقوف على أطراف أصابعي لتقبيله في العيد الصغير أو الكبير، وعلى كلّ من هي خارج المجال الحيويّ لذراعي في الطرق الليليّة، وكلّ من يجعلني أو تجعلني مستمعاً أنظر إلى العلياء، كأنّي طفل صحراوي ينتظر المطر. نعم لديّ أيضاً حقد طوليٌّ على كلّ من يتعاطف معي وينحني لتقبيلي في العزاء، وكل من تجلس على ركبتيها لتخاطبني بتكافؤ: "صديقي أحتاجك"، وكلُّ من يناديني أو تناديني من علٍ: هل تسمعني؟! أنا متصالح و"مُطبّعٌ" مع نفسي، وراض بانتسابي القسريّ لفصيلة المَرْبوعين، وقلتُ بإيمان يبدو صادقاً: "اللهمّ لا اعتراض". لكنّ لي انكسارات وهزائم، كان يمكن أن أتفاداها لو أضيفت عشرة سنتيمترات إلى ساقيّ الزاحفتين، بل كان يمكن لو أنّها أضيفتْ أن أظلّ منتصراً، أسجّلُ أهدافاً هوائيّة لا تُردّ، أكون مرغوباً لكلّ النساء، كلهنّ، أطول العنب والبلح أيضاً، أكون دائماً في وضع من يربت على الكتف، وأنحني لأتحاشى التلفزيون المعلّق.. فأتأكّد أنّي كبُرتْ!اضافة اعلان