"الناس سيارات"!

قبل أعوامٍ كنتُ كائناً من المُشاةِ، ولما أصبحَتْ طُرقي طويلة، صرتُ كائناً من الركَّابِ أقِفُ في طابورِ الباص مع ناسٍ مُتعبينَ، لواحدٍ منهم رائحة عرقٍ منفِّرَةٍ، أضطرَّ لشمِّها والفتاة التي تقفُ أمامَهُ، ثمَّ تنظرُ إليَّ طالبَةً المؤازرَة، فأردُّ لها نظرة مُغمَضَةً مع اقتراب الأنف من الفم تدلُّ بصراحة على الاشمئزاز. ينتهي الطابورُ بعد وقت طويلٍ، وشاءَ الحظُّ المحايِدُ، إلى تلك اللحظة، أنْ تجلسَ الفتاةُ بجانبي.اضافة اعلان
نظرتْ بقلق مُفتَعلٍ إليَّ بعد انطلاق الباص، بالتزامن مع صوتِ شيخٍ صغيرٍ يبكي بتقوى زائدة، مُحذِّراً من عذابِ القبر، فأجبْتُها بنظرة صادقَةٍ تفيدُ بالتعاطف. كدتُ أنْ أتكلَّمَ كلمَتيْن فائضتيْن للمؤازرة المعنوية، لكنَّ محصِّلَ الأجرة، استحسَنَ فتاةً كئيبَة الملامحِ تجلسُ في المقعد الخلفيِّ بين ثلاثة ركابٍ، فقلبَ المزاجَ العام بدون اعتراض من السائق الذي أصابه ورعٌ طارئ، ووضَعَ أغنيَةً مهرولةَ الإيقاع لمغنِّ شديد الشعبية. كانت كلمات الأغنية تقول إنَّ بَيْنَه وبينها خطوة ونصف، وبيني وبيْنها في الحقيقة لم يكن أكثر من شِبْر ونصف من الفراغ الذي ملأتُهُ بخيال درامي، انتهى بزواجي منها..؛ لكنَّها غادرت مسرعة عند أول محطة كان ينتظرها فيها شاب بسيارة DAEWOO كرتونيَّة الوزن!
تكرَّرَ ذلك الموقفُ مرَّاتٍ كثيرة، بصيغٍ متعدِّدَةٍ..؛ في أحيان قليلة أكونُ واقفاً، متعلِّقاً أو مُعلَّقاً إلى أو بسقف باص مؤسسة النقل العام الكبير، المكتظِّ بالعمالة الوافدة، وأحيان أخرى لما صرتُ كائناً صاحب مزاج مركِّبٍ، أجلسُ في "السرفيس" متوسَّطاً شخصَيْن يرتديان، على سبيل القيافة، بدلتين من الألوان الحارة، ولهما رائحة شديدة الدفء (!)، وأحيان أخيرة أصبحتُ أركب "التاكسي" بالاشتراك مع آخرين..؛ ودائماً ثمة فتاة تغادرني إلى شاب يركبُ سيارة كوريَّة من موديل 96 فما دون!
واشتريْتُ سيَّارةً كوريَّةً تعودُ إلى العام 96 تحديداً، لأصيرَ مواطناً عنجهياً من فئة السائقين، أمارسُ القيادةَ بمنتهى الفوقيَّة.. فأُرخي يدي اليُسْرى من الشبَّاكِ ضجَراً، وباليُمْنى أمسكُ المقودَ بأطراف أصابعي، وبينهم سيجارة غير مشتعلة؛ في احترام وحيدٍ أُبديه تجاهَ قواعد السير الصارمة. ثقتي في نفسي تعاظمتْ، وهي التي باتت تدفعني لإطلاق "زامور" متقطِّعٍ كلما رأيْتُ فتاةً على الرصيف منتظرَةً، لوَهْمي الكبير أنَّني الشخصُ المُنْتظَرْ، وأن ثمة موعداً بيننا لم يُشغِلْها عنه شابٌ وسيمٌ يجلسُ قربَها في الباص أو "السرفيس"!   
ومشيْتُ بالسيَّارَة في شوارع العاصمة النظيفَةِ كلِّها، حتى هَرِمَتْ، وصارتْ عبئاً منفِّراً، خصوصا بعدما عرفتُ كيف أستدرجُ النساءَ إليْها لمشاويرَ بريئةٍ تماماً، لكنَّها كانت تخذلُني في بعض المواقف، وتَصدرُ عنها أصواتٌ كتلكَ التي تطلقها الشاحنات ساعة الإحماء، فيختفي صوتُ المغنِّي الكئيب، وتنشغلُ يداي عن يديِّ امرأة تعيسَةٍ، بتحسُّسِ وسائل السلامة التي لم تسلم من الأذى أو العطل المؤقت..؛ ذلك الذي اضطرَّني أنْ أهاتفَ أشقائي مستنجدا، وأتركَ المرأة تذهبُ في سبيلها الذي سيقودها في اليوم التالي للصعودِ مع رجلٍ أنيقٍ في سيارة رأيتُها بالأمس فقط في دعاية على قناة MBC1 في عرض أول!   
انخفضَتْ قيمَتي في سوقِ الرجال، حينَ استقرّت على وَصْفي سائقاً من الفئة الثالثة، يقودُ سيارَةً زرقاء هرِمَةٍ، فحصها في السوق "أربعة رديء"، تتعطل في كلِّ محاولة للتشغيل أمام الإشارة..؛ هنا تحديدا أبدو ضئيلاً، في نصف حَجْمي الطبيعيِّ أمام واحدَةٍ من الفتيات اللواتي كنتُ أقفُ في وسط باص مؤسسة النقل العام لأُجلسهنَّ مكاني. كانت تركَبُ "جيب"، وحين نظرْتُ إليها من سيارتي بدا الفارقُ واضحا: هي في الطابق الثالث مسندوة بقرض بنكي، وأنا في الأرض تماماً بعمق العام 96 فما دون!

[email protected]