النخب السياسية الافتراضية

بعد ربع قرن من عودة الحياة السياسية في الأردن، تجمع الأطراف كافة على ضعف النخب السياسية وكذلك التيارات والأحزاب في قيادة المشهد السياسي الأردني.
الأطراف تتبادل الاتهامات.. القوى السياسية والأحزاب تتهم السلطة وأجهزتها في إجهاض العمل السياسي والحزبي، كما تبرر عدم فاعليتها على الأرض بأن عودة الحياة السياسية الحزبية كانت شكلية وأنها -أي أجهزة الدولة- أجازت عمل الأحزاب وتحاربها بكل الوسائل والسبل، وتجر الكثير من الأمثلة العملية على ذلك ومنها سياسات منع الطلاب من العمل الحزبي في الجامعات، ومنع ترخيص بعض الأحزاب ولو بمبررات" قانونية".اضافة اعلان
في المقابل الخطاب الرسمي يأخذ على بعض الأحزاب أنها مؤسسات تقاعد لشخصيات حزبية غير أردنية الهوى ، وهي في نظرها شخصيات سياسية حاربت الدولة. ومع عودة الحياة الحزبية فإن تلك الرموز الحزبية المعتقة لم تجدد نفسها ولا خطابها.
الحقيقة المرة أن المشهد السياسي اليوم مهشم، وغياب النخب السياسية واقع مر نعيشه كل يوم، ولعل من نتائج ذلك أن النشاط السياسي في معظمه مقتصر على الفضاء الافتراضي، بل لعل ذلك الفضاء هو الفضاء الوحيد في العمل السياسي والعمل العام، والساحة العملية خالية من أي فعل جدي على الأرض، وأكثر من ذلك فإن أوليات العمل العام مفقودة، وأقصد بذلك قبول الآخر وعدم الإقصاء والشخصنة. هذه النخب أو الأفراد مستريحة على جنبات صفحاتها الافتراضية وخلف حوائطها تعلي السقف وتخفضه وتنهش في الخصوم، لكنها على أرض الواقع لم تحل قضية ولم تشكل رأياً عاماً في أي إشكالية يعيشها المجتمع، وهي في مجملها ضوضاء وقعقعة دون طحن ولا طحين.
وقبل القفز على نوايا مفترضة لهذا التحليل أقول إن حرية التعبير والرأي مقدسة وأن لا مجال لعلاج أي خلل في ممارسة هذه الحرية إلا بمزيد من الحرية ومزيد من توفير الفضاءات اللازمة لممارستها في ظل قانون ينظمها ولا يمنعها، ولكن الكلام هنا عن حقيقة دور نخب العالم الافتراضي في مجال العمل السياسي على الأرض، لتوضيح ذلك، لنأخذ مثالا قانون الضريبة، وهو قانون لا صديق له، هو عدو الطبقة الوسطى والعليا وعدو الشركات والقطاع الخاص، حتى الحكومة غير راضية عن القانون كما عُدل من النواب فقد أفقدتها التعديلات مائة مليون دينار سنويا، والحكومة تبحث الآن كيف تحاول تعويضها بإلغاء مشاريع أو استحداث رسوم وعوائد، لكن هذا القانون مر من تحت ذقن الجميع ورغم جميع صفحات النشطاء وتعليقاتهم ولم تفلح مجاميع "الفولورز" ولا مجموعات "الواتساب" أن توقف نصاً أو أن  تعدل حرفاً واحداً في القانون، لقد تخيلنا أن هذا القانون دونه الرقاب وقد تصورنا أنه أطاح بالحكومات وجلب حكومات أخرى، ويبدو أن المسرح أوسع مما نتصور وأن الإفتراضية في حقيقتها تعكس وهمية في الوسائل والأشخاص.
خذوا  قضية إلغاء المؤتمر، فقد كانت اختلافا حول حرية الرأي والتعبير ومساحتها، واختلاف على  دور السلطة التنفيذية في وقف نشاطات المجتمع المدني، وانتهى هذا الاختلاف في الرأي إلى حملات تخوين واتهام من كل الأطراف حتى وصل الأمر إلى التلويح بالتصفية الجسدية لأشخاص من كلا الطرفين، وانتهى الأمر دون أن يتبلور لدى النخبة ولا حتى أفراد المجتمع رأي نهائي حول هذا الأمر، أين تقف حرية الرأي والتعبير؟ ما هي العلاقة بين تلك الحرية ومقدسات المواطنين؟ هل من قدسية دنيوية للدستور؟ والسؤال الأهم علاقة الأمن بالحرية؟ وكيف نفك التشابك بينهما؟ النخب مرة أخرى حولت اختلافها حول هذا الأمر إلى اصطفاف أعداء وليس مواطنين بآراء مختلفة، وصارت المعركة معركة تكسير عظام وفشلنا في تطوير أي خطاب حول هذه القضايا المهمة.
غاية القول إن حرية الرأي التعبير مقدسة وأن الحق في النقد القارس لمن يتولى السلطة حق دستوري وهو أمر من موجبات صلاح السلطة التنفيذية ومراقبتها، ووسائل التواصل الاجتماعي ضرورية ضمن قانون ينظمها ولا يمنعها، ولكن العمل العام من المجال الافتراضي هو تخدير للذات والوطن، من يأخذ على الحكومة شيئاً لو كان في حزب في البرلمان لكان لرأيه فاعلية، وبغير هذا سيبقى المشهد السياسي مهشما فيه من الصراع أكثر ما فيه من البناء وسيبقى الوطن هو من يدفع الثمن غاليا، فاهم علي جنابك؟