النسخة الأخيرة من العفو العام

تفيض السجون بمن فيها، وآلاف السجناء يعيشون وضعا صعبا، فوق وجود أكثر من مائتي ألف مطلوب، وبعضهم خارج الأردن، وبعضهم يتوارى داخله.اضافة اعلان
اغلب القضايا ذات سمة مالية، الشيكات، وغير ذلك، والقوانين التي تسمح بسجن كاتب الشيك إذا لم يدفع، هي ذاتها التي تعيده الى السجن بعد خروجه عبر تجديد السجن، فلا هو يدفع ولا عائلته تعيش ولا يتم حتى منحه وقتا ليتدبر المال، ولا صاحب المال يسترد ماله، ولا اماكن في السجون ولا سجون جديدة.
هي فرصة لنسأل الحكومة عن حلها الجذري لملف الشيكات وأثره القانوني، بمعزل عن قصة العفو العام الحالية، خصوصا، في ظل التراجعات الاقتصادية، وقد يكون منح كتبة الشيكات بعد وقف ملاحقتهم او اطلاق سراحهم وقتا زمنيا كافيا لحل مشاكلهم المالية خيرا بكثير من سجنهم او إعادة سجنهم بما يؤدي لدفع الحقوق لأصحابها، او الوصول الى تسويات مالية، او تقسيط المبالغ؟
في السجون وخارجها، وعبر مذكرات التنفيذ القضائي، لدينا كل نوع يخطر على البال من قضايا النصب الى القتل مرورا بالاغتصاب وقطع إشارة المرور الحمراء وصولا الى المخدرات، والاعتداء على مرافق الدولة، وقضايا القدح والذم ووسائل الاعلام الاجتماعي، والمشاجرات والعنف.
البعض يريد تبييض السجون وتسويد الشوارع، والبعض يريد تسويد السجون وتبييض الشوارع، وهكذا تتصادم الآراء والمصالح والحقوق.
يشتعل الجدل منذ أسابيع حول العفو العام، وقد تسبب بشكل واضح بانقسام كبير في الرأي العام والمؤسسات أيضا بعد طول انتظار لهذا العفو، ولا نريد ان نقول ان العفو العام طال وقته حتى بات لغزا، لان التأخير بات مفهوما في دوافعه.
الحكومة قدمت نسخة من العفو العام، مقيدة، وفيها استثناءات محددة، ما أدى الى هجوم الرأي العام على الحكومة، معتبرا ان العفو جاء منقوصا وان لا فائدة منه ولا يحقق غايته، كونه يحرم الآلاف من فرصة جديدة في هذه الحياة.
النواب قدموا نسخة شعبية من العفو العام تكاد ان تسمى عفوا عاما بلا استثناءات، الا ما ندر، واحرجوا الحكومة والاعيان، وللمفارقة أدت هذه النسخة الى هجوم الرأي العام على النواب باعتبارهم يريدون العفو عن المجرمين والقتلة وجماعات المخدرات والذين يعتدون على القانون، في بلد يقول فيه الجميع انهم يريدون دولة القانون لكنهم في الوقت ذاته يريدون إطلاق سراح من يعتدون على ذات دولة القانون، فلا يحدثك النواب عن منطقهم في اطلاق سراح تاجر مخدرات، مثلا، ويجعلونه منطقا متساويا مع منطق اطلاق سراح ضحية مدمنة للمخدرات، وبحاجة الى علاج وفرصة جديدة!
الاعيان، الذين خالفت لجنتهم القانونية قرار مجلس النواب، وسوف يجتمعون اليوم، لوضع لمساتهم الأخيرة على القانون، لديهم اعتراضاتهم أيضا على ما اقره النواب، وسنجد انفسنا اليوم امام نسخة جديدة من قانون العفو العام، تؤدي الى عقلنة العفو وجعله منطقيا، وعلى الأرجح سيتم اعتماد نسخة الاعيان باعتبارها النسخة الأخيرة التي ستتم المصادقة عليها.
كيف يمكن هنا ان نصل الى عفو عام لا يتسبب بغضب كثيرين، سواء من الذين يرفضونه او الذين يريدونه، فنحن امام وضع معقد تسبب به طول مدة التداول في هذا الملف، وكثرة الآراء التي دخلت على خطه، وتناقض المصالح بين الافراد والمؤسسات، من جهة، وبين أصحاب الحقوق الشخصية من جهة، والمطالبين بهذه الحقوق من جهة أخرى، فوق ما يراه كثيرون بكون العفو العام قد لا يكون مضمون النتائج من حيث كونه فرصة حقيقية لتغيير سلوكيات كثيرين؟!
اهم محددات العفو هي الا يتم مس مبدأ العدالة والقانون، والا يتم مس الحقوق الشخصية، وان يمنح فرصة جديدة في هذه الحياة، وعلى الأرجح تحمل العناصر الثلاثة تناقضا جزئيا فيما بينها، وليس ادل على ذلك من انقسامات الرأي العام، ونسخ الحكومة والنواب والاعيان التي تناقض بعضها البعض من حيث فهم كل طرف لمعنى العفو العام.
لا يمكن في كل الأحوال اصدار عفو عام لا يكون عفوا بالمعنى العميق، مثلما لا يصح ان يكون العفو العام لطمة على وجه دولة القانون وفرصة جديدة لكسر القانون تلتحق بكل محاولاتنا اليومية لكسره في حياتنا عبر تصرفات مختلفة.
يبقى السؤال: هل سيقبل النواب تعديلات الاعيان، ام سنجد انفسنا امام مواجهة جديدة بين كل الأطراف؟!